حكاية قديمة مع صاحب ( الزمان ) !
عبد الرزّاق الربيعي
في كلّ مساء، عندما يرخي الليل سدوله، صار موعدي ثابتا مع نسخة “بي دي أف” من جريدة” الزمان” يبعثها بشكل منتظم، عبر “الواتس أب”، وبوقت تقريبا متقارب الصديق د. أحمد عبدالمجيد، رئيس تحرير طبعة العراق، فأسارع إلى تمرير نسخة إلى أخي “علي جبّار عطية”، رئيس تحرير صحيفة” أوروك” الذي أجده بانتظار طائر المساء الألكتروني وما أن أفتح الملف، وتقع عيني على عنوان الجريدة، حتّى تعود بي الذاكرة إلى الوراء
وتحديدا عام 1992، حين دخلت على غرفة الكاتبة إبتسام عبدالله في جريدة الجمهورية كعادتي صباح كل يوم , ثمّ أنصرف، لكنّها في ذلك اليوم، ابتسمت، وقالت: اغلق الباب خلفك، واجلس معي لك خبر سار، ثم همست :(أبو الطيّب) بخير، وسيصدر جريدة في الأردن، فسألتها: حقّا؟ كان آخر منصب تبوّأه الأستاذ سعد البزاز هو رئاسته لتحرير جريدة” الجمهوريّة”، وقبل ذلك، كنّا، بحكم عملنا، نلتقي به يوميّا، أنا حين كنت مسؤولا عن صفحة الفنون ” ماقبل الأخيرة”، وأمّ خالد كونها سكرتيرة التحرير، والمشرفة على القسم، وفي تلك اللقاءات كنّا نتسلّم توجيهاته، لكنّه، غادر بغداد لطباعة كتابه”حرب تلد أخرى”، ولم يعد!! فدخل اسمه في “القائمة السوداء”!، ويومها لم يصدر شيء رسمي، وحتى ذلك اليوم كان اسمه لم يزل يظهر عند “ترويسة” الجريدة رئيسا لتحريرها جريدتنا (الجمهورية)، لكن في عيد الجريدة، الذي يوافق الرابع من كانون الأول من كلّ عام( تأسّست عام 1958 واحتجبت عن الصدور في نيسان 2003 بقرار من سلطة الاحتلال عقب إلغاء وزارة الإعلام)، وكنت قد أفردت صفحتين لاحتفالية الجريدة بالمناسبة، ووضعت في صدرها صورة البزّار مع عبارة “الحاضر الغائب”، وخلال العمل على تجهيز الصفحات في القسم الفنّي، جاء رئيس التحرير بالوكالة الراحل” أمير الحلو” بصحبة نائبه الراحل” لطفي الخيّاط” ، فألقى نظرة على الصفحتين ثمّ همس بكلمة في أذن الخيّاط، نقلها لي، وهي” ارفعوا الصورة” والعبارة، ساعتها عرفت أنّ البزّاز أصبح مغضوبا عليه!
لذا، كان وقع الخبر على مسامعي كبيرا، وبعد صمت قصير، سألتها عن معلومات عن الصحيفة، أجابت :
ليست لديّ معلومات سوى أنّ اسمها (الزمان)، ومشروع كهذا يحتاج الى وقت طويل.
°°°
حين وصلت الأردن مع الصديقة الشاعرة أمل الجبوري في 2.1.1994 والمرحومة حكمية جرار التي كانت في زيارة لأهلها بعمّان كان بإستقبالنا الصديق الشاعر عدنان الصائغ وعلى الفور أخذنا الى شقته الرطبة الصغيرة في (الشميساني)، وأبلغ أبا الطيب, بعد ساعات قليلة جاء الينا, وكان يرتدي معطفا أسود ويشرب (الجروت) الكوبي ولم تكن أعراض مرض المنفى قد ظهرت عليه , ولا أظنها ظهرت فيما بعد , فقد كان كعادته , أنيقا , مبتسما , يمازح من حوله ويخطط لمشاريع بعيدة المدى , رغم ان مسدسه الشخصي لم يكن يفارقه إذ كان معرضا في أي وقت لأي أمر طاريء خصوصا بعد إغتيال طالب السهيل في بيروت …سحبني إلى الخارج، ثمّ أخذ نفسا عميقا من (سيكاره) وقال :ماذا تريد أن تعمل في السياسة ؟ أم في الثقافة ؟ أنا حاضر لمساندتك في أي شيء تختار
أجبته على الفور: شكرا لك، لا علاقة لي بالسياسة .
قال: أعرفك جيدا …فكر إذن مع عدنان وأمل بمجلة ثقافية، وأنا على إستعداد لدعم أي مشروع تفكرون به”
فشكرته ثم عرض علينا فكرة الذهاب الى مكتبه صحبنا بسيارته إليه، هناك شاهدت بطاقة تعريف كتب عليها(الزمان) لاحظ إهتمامي، فقال :هذه ترويسة الجريدة التي أشتغل عليها ..الزمان
وكانت تلك المرة الثانية التي أسمع بها إسم (الزمان)، وكان مشروعا من ضمن مشاريع أبرزها دار النشر التي أصدرت عدّة كتب، من بينها كتاب” الشعر العراقي الجديد”الذي كنت من ضمن المشاركين به ، إلى جانب الشعراء: جواد الحطّاب، زاهر الجيزاني، عدنان الصائغ، د.علي الشلاه، الراحل كزار حنتوش، ومحمد تركي النصّار، وخلال ذلك ظننت أنّ موضوع الجريدة، سيظلّ مركونا على الرفّ خصوصا أنّه ذات يوم أخبرني أنّه يخطّط لتأسيس قناة تلفزيونية فضائيّة
– قناة فضائيّة؟ سألته مندهشا، وكم تحتاج من المبالغ؟
أجابني: مليون دولار
– مليون دولار؟
– نعم، القناة تحتاج إلى استوديوهات، ومراسلين، وإدارة، ومصاريف تشغيلية
يومها شعرت أنّ أحلام هذا الرجل لا سقف لها!
وبالفعل حقّق بعد سنوات قليلة حلمه بتأسيس قناة(الشرقيّة) الفضائية العراقيّة الأبرز في الساحة
الإعلاميّة.
°°°
بعد مغادرتي عمّان إلى صنعاء في 7.12.1994 بقيت على تواصل مع البزّاز، وعرفت أنه يخطّط للانتقال إلى لندن، وبعد أن استقر في عاصمة الضباب، والصحف العربيّة المهاجرة، عاد مجدّدا للحديث حول مشروع جريدة” الزمان”، وحين علم بزيارة قمت بها في العطلة الصيفيّة إلى عمّان، كعادة العراقيين الذين يعملون في التدريس باليمن، ولا يستطيعون الذهاب إلى بغداد، فكّلمني، وحدّثني عن مواصلة خططه بإصدار(الزمان)، وعرض عليّ مساعدتي للانتقال إلى أوروبا ، والاستقرار، فيما بعد، بلندن، للعمل في الجريدة، وقبل كلّ ذلك ينبغي تقديم ملف لمفوضية الأمم المتحدة في عمّان بطلب اللجوء، فشكرته، واعتذرت، لكوني ألفت الإقامة في صنعاء، وانسجمت مع أجوائها الثقافيّة، ولم يخطر ببالي أنّني سأغادرها إلى مسقط حيث أقيم اليوم!
°°°
ذات يوم من عام 1996 إتصل بي، ليبلغني أنّ مشروع جريدة” الزمان” في طريقه إلى النور، بل طلب مني موادا للعدد (صفر)، فبعثت له طردا وبعد ذلك بأسابيع صدر العدد صفر 1 وصفر2 وصفر3
كانت فرحة كبيرة لا توصف حين وصلني , بعد ذلك جرى تواصل بيننا حول ملاحظاتي وملاحظات من حولي حول الجريدة , ثم صدر العدد الأول وكانت تصلني عشر نسخ، فاوزّعها على الرموز الأدبية في صنعاء، وبقيت أبعث رسائلي على هيئة طرود بريديّة يستغرق وصولها أحيانا عشرة أيّام، أو أكثر، وذات يوم قال لي البزّاز، وكنّا نتحدّث عن تأخّر وصول الرسائل البريديّة: سيأتي يوم، وستبعث رسائلك عبر البريد الالكتروني!! يومها لم يكن الانترنيت قد دخل حياتنا، إلا بشكل محدود جدا!
سألته: الرسائل بكاملها؟
أجاب: والصور كذلك
فتملّكتني الدهشة، وتساءلت مع نفسي: كيف يمكن ذلك؟ أبو الطيّب لا يكفّ عن الأحلام,هل حقّا سيأتي ذلك اليوم؟
وهززت يدي مستغربا!!
ولم أعرف أ ذلك تحقق بعد أقل من أربع سنوات، عندما صار اعتمادنا الرئيس على البريد الالكتروني في مراسلاتنا !
°°°
بعد أن انضمّت لأسرة تحرير( الزمان)، تواصلت معي الشاعرة لينا الطيبي، كانت أول رئيسة للقسم الثقافي في الزمان، وكان التحدي الأكبر لها هو ان تجعل للثقافة ملفا يوميا من أربع صفحات !!
الكثيرون راهنوا على عدم إستمراره لكنّ ملحق (الف ياء) تحدّى رهاناتهم، وجعلها خاسرة، و بدأ يستقطب الكتّاب، والمثقّفين، والأدباء العراقيين، والعرب، مواصلا نجاحاته.
لقد كانت الطيبي تتواصل معي هاتفيا بإستمرار، وتدور بيننا ناقشات حول ملفات، ومحاور، وحوارات وكانت أولى تلك الحوارات مع الشاعر سليمان العيسى، وعبدالعزيز المقالح وعبدالغفار مكاوي وعبدالملك مرتاض، وجودت فخر الدين، والدكتور شاكر خصباك، والدكتور حاتم الصكر، والدكتور عبدالملك مرتاض والعديد من الرموز الأدبية اليمنية والعربية .
°°°
بعد إنتقالي الى مسقط، ظلت علاقتي مستمرة مع الزمان مع الأيام الأولى لوصولي اليها، وكان وصول الجريدة الى مسقط قد سبق وصولي، فكنت أزوّدها بالنصوص، والحوارات التي كان أبرزها حواري مع الشاعرة المبدعة لميعة عباس عمارة، إذ أعلن عنه قبل نشره على الصفحة الأولى لثلاثة أيام متتالية وبعد نشره تلقيت ردود عديدة نشرتها الجريدة، وكاد أحد هذه الردود أن يعكّر صفو الود الذي بيني، وبين صديقي القاص فيصل عبدالحسن لكننا إحتوينا الخلاف , ثم إستمرت علاقتي بالزمان مع وصول الدكتور فاتح عبدالسلام الى لندن وإنضمامه الى أسرة (الزمان ) وصدورمجلة (الزمان الجديد) ومجلدات (الف ياء) وترؤس صديقي كرم نعمة القسم الثقافي وإتساع المشروع .
واليوم، بعد مرور تلك السنوات الطويلة، أشعر بالسعادة، والفخر، أنّ الحلم الكبير تحقّق، والبذرة الصغيرة صارت دوحة وارفة الظلال، وأني كنت من أوائل من كتب بها، منذ العدد صفر، وعمل مراسلا لها في صنعاء ومن ثم مسقط ولم أزل مواظبا على الكتابة بها بين حين، وآخر، والحرص على تصفّحها، ولو على هيئة (بي دي أف) يجود بها الصديق د. أحمد عبدالمجيد برسالة واتسابيّة تنعش ذاكرتي، فأستعيد حكايات مضت مع (الزمان) وصاحبها.