قوانين الحضارة

د. طارق محمد حامد | باحث أكاديمي في التاريخ والحضارة

إن للحضارة قوانين؛ ومما لا شك فيه أن الأمم التي احترمت هذه القوانين وأخذت بها نهضت وتقدمت واتخذت لها مكانا مرموقا في ساحات الحضارة والفخار. والأمم التي اتخذتها وراءها ظهريا تخلفت وانزوت في أزقة التخلف والجهل والانحطاط.

ومن هذه القوانين:

 قانون المساواة

فلا فرق بين الناس في الحقوق والواجبات والثواب والعقاب و ينطبق هذا علي كل أفراد المجتمع لذلك لما سرقت المرأة المخزومية الشريفة في قومها و استشفعت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسامة بن زيد رضي الله عنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي لا يقام عليها حد السرقة بقطع يدها، فغضب النبي صلى الله و احمر وجهه وقال: أتشفع في حد من حدود الله يا أسامه ثم خطب في الناس وأرسي مبدأ المساواة في المحاسبة و أحد قوانين الحضارة و قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، و الذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.

وفي الحصول علي الحقوق يستأثر بها الوجهاء و الأعيان و الوزراء و الأغنياء ويلقي الفتات للعامة والفقراء و الدهماء، والحق هنا ليس مالا فقط و لكن كل شيء كفله الله عز و جل للإنسان وأصبح حقا أصيلا من حقوقه كالحق في الحياة والغذاء والكساء والمسكن والحرية، فمن طالب بحقه الأصيل صنف بالمتمرد والخارج علي القانون و زج به في غياهب السجون ونادت الأصوات و الدعوات بتطهير المجتمع من هذه الحثالة.

فلا عدالة إذا و لا مساواة و أني افتقرنا إلي هذا القانون افتقرنا للتحضر و النهضة لأن هذه سنن ربانية أرساها الرب الكريم – عزَّ و جلَّ – و أودعها في الكون فمن أخذ بها تقدم و نهض ومن أهدرها تخلف و انزوي.

من قوانين الحضارة .. التماسك المجتمعي مع التنوع

أسس النبي صلي الله عليه وسلم دولة مدنية لها دستور يحتوي علي  التنوع العقدي و كل الأطياف السياسية آنذاك و ذلك من خلال الوثيقة التي أقرها للمسلمين و لمشركي المدينة ولليهود ليتساووا في الحقوق والواجبات و يتشاركوا في العيش و العمل جميعا علي أرض هذه الدولة الناشئة ، وكذلك اتفاقية الدفاع المشترك عن المدينة و هكذا ظلوا حتي خانت يهود و غدروا فتم إجلاؤهم عن المدينة الفصيل تلو الآخر إلي آخرهم يهود خيبر أخرجوا منها بخيانتهم و غدرهم و تآمرهم علي الإسلام و المسلمين و قد نصت الوثيقة أو دستور المدينة علي ذلك .

لذلك من أهم قوانين الحضارة التماسك المجتمعي مع التنوع و يؤدي ذلك إلي التكاتف و التعاون علي النهوض بالأمم لأنه يوحد الجهود و لا يشتتها و كذلك توظيف الموارد المتاحة سواء البشرية أو المادية و الحفاظ عليها من إهدارها بسبب التناحر و الشقاق و الفرقة و ينطبق هذا القانون علي الأمم و الجماعات سواء بسواء.

من قوانين الحضارة … ثقافة الاختلاف

برغم اختلاف العقيدة حاور النبي صلي الله عتبة بن ربيعة بأدب راق في الحوار ، مع أن عتبة هذا هو عدو الله و رسوله صلى الله عليه وسلم و هو رأس من رؤوس الشرك و جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم و قال له : يا ابن أخي اسمع مني أحدثك، فقال صلي الله عليه وسلم: أسمع، فقال عتبة : إن كنت تريد بهذا الأمر مالا جمعنا لك المال حتي تصير أغنانا ، و إن كنت تريد الملك ملكناك علينا ، و إن كنت تريد النساء جلبنا لك أجمل النساء ، و إن كان ما يأتيك رئيا من الجن إلتمسنا لك الطب حتي تشفي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرغت يا أبا الوليد ؟

ما هذا الرقي؟

حقا : و إنك لعلي خلق عظيم يا رسول الله صلى الله عليك و سلم تسليما كثيرا

ينعته عتبة بن ربيعة بأربع صفات تعد كل واحدة منهن قدحا في شخصه و رغم ذلك يصبر علي آذاه النبي صلى الله عليه وسلم و يتأكد من فراغه من الحديث و لا يقاطعه و يكنيه و بعد ذلك يتلو قول الله عز و جل من أول سورة فصلت حتي انتهي إلي قوله تعالي : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود.. فوضع عتبة يده علي فم النبي صلى الله عليه وسلم و قال : ناشدتك الله و الرحم …

هذه أخلاق الحوار و ثقافة الإختلاف يعلمنا إياها صلي الله عليه وسلم…

وليس معني أني أختلف معك في عقيدة أو رأي أو توجه سياسي أن تقصيني أو تشيطن شخصي أو فكري و لا يصل بك الأمر إلي اغتيالي معنويا و قتلي …مهما كانت درجة الإختلاف بيننا ، و كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: رأي صواب يحتمل الخطأ و رأي غير خطأ يحتمل الصواب و ما جادلت أحدا إلا أحببت أن يظهر الحق على لسانه أو لساني ….

فالحضارة يا سادة تقوم علي التنوع و الإختلاف و ليس الشقاق و الخلاف و شق الصف العام للأمم و الجماعات و إقصاء الآخر.

من قوانين الحضارة .. الشفافية

حينما حاصر المشركون و غطفان المدينة في غزوة الخندق أو الأحزاب أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عن المسلمين الحصار و كانت غطفان تريد ثلث ثمار المدينة لمدة سنة علي أن تنسحب فمن باب الشفافية عرض النبي صلى الله عليه وسلم ذلك العرض علي أصحاب البلد الأصليين و هم الأنصار و لم يعرض الأمر علي المهاجرين،  فقال سعد بن معاذ قولته و رفض الأمر بصفته زعيم الأنصار، و ما كان علي النبي أن يعرض الأمر و كان من باب أولي أن يتخذ هو صلي الله عليه وسلم القرار بصفته القيادية فضلا علي أنه النبي و لكن من باب الشفافية و رد الأمر إلي أهله تشاور في المصالحة و في تصوري أن من أهم قوانين الحضارة هو الشفافية و إشراك الصف في الأمور الجسام و المصيرية أما أن أحجب عن الصف أو الجماهير أو الشعوب أمورا جليلة و مصيرية تخصهم في المقام الأول تماما مثل جبل الجليد الظاهر منه عشر المستقر تحت ماء البحر  و أستبد برأي و أودي بالشعوب إلي التهلكة أو بالصف إلي شتي الحتوف و أنا أعلم النتيجة المحتومة مسبقا فهذا ضرب من السفه و هل كان يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن سبعين من القراء سوف يقتلون في حادث بئر معونة و ماء الرجيع و بالرغم من ذلك أرسلهم ، مطلقا ما كان ليلقي بأصحابه إلي الموت و هو يعلم.

حتي الوليد بن عبد الملك لما أراد موسي بن نصير فتح الأندلس قال له اختبر عمق المياه في مضيق جبل طارق إني أخشي أن تلقي بالمسلمين في بحر عميق هائج يلقون فيه حتفهم فيسألني الله عنهم

و الدول لا تنهض بالثقة و الجماعات البشرية لا تقوم علي مبادئ مبهمة لا تقيم أود الأمم و لا تنهض في مراتب الحضارات و لكن لابد من الشفافية و إظهار الحقائق ليحيى من حي عن بينة و يهلك من هلك عن بينة.

من قوانين الحضارة …. التخصص

من أهم قوانين الحضارة الراسخة ، قانون التخصص لأن عصر عنصر الحضارة الموسوعي قد انتهي و عصر العالم الشامل أو الإمام أصبح من التاريخ و لقد سبق النبي صلي الله عليه وسلم لهذا القانون الحضاري الفعال بتوجيه الصحابة رضوان الله عليهم بالتخصص كل في مجال معين حيث قال : أعلمكم بالحلال و الحرام معاذ بن جبل و أفرضكم (أي أعلمكم بعلم الفرائض و هو المواريث ) زيد بن ثابت و لكل أمة أمين و أمين هذه الأمة أبو عبيدة ، و ندب أحد الصحابة لتعلم السريانية و هي لغة يهود فتعلمها في سبعة عشر يوما .

أما الأخذ بالعموميات فهذا من السفه و في عصرنا هذا لم يعد التخصص مثلا في الطب علي حاله بل تشعب منه تحت التخصص و كذلك في كل مجال من مجالات الحياة و هذا ما أخذ به الغرب أما نحن فنجد الشخص الموسوعي و لكن في (الفهلوه) الذي يفتي في كل شيء كما أخبر عنه النبي صلي الله و سلم في الحديث الصحيح : يأتي علي الناس زمان يصدق فيه الكاذب و يكذب فيه الصادق و يخون فيه الأمين و يؤتمن فيه الخائن و تنطق فيه الرويبضة ، قالوا و ما الرويبضة يا رسول الله ، قال : الرجل التافه يفتي في أمر العامة .

و لكي ننهض و نتقدم في درجات الحضارة و نخرج من دركات الجهل و التخلف ، يجب علينا أن نأخذ بهذا القانون الفعال و الهام من قوانين الحضارة ألا و هو قانون التخصص بل يجب أن نناطح الغرب في علومهم و نتفوق عليهم و نبتكر نحن علوما و تخصصات جديدة تنتفع بها البشرية كلها و لذلك عاب الإمام الغزالي علي بلد بها أكثر من خمسين فقيه و لا يوجد بها طبيب مسلم واحد ، و أصبح هنا فرض عين علي كل مسلم أن يجتهد ليكون طبيب هذه البلد؛ كذلك التخصصات النادرة يتعين علي كل مسلم أن يكونها حتي نصل إلي حد الكفاية فيه.

من قوانين الحضارة.. الإنسان قيمة معتبرة و وحدة عمارة الدنيا

لذلك لما مرت جنازة يهودي علي النبي صلي الله عليه وسلم تأثر تأثرا شديدا و لما سئل عن ذلك صلي الله عليه وسلم قال : نفس تفلتت مني إلي النار

الإنسان قيمة معتبرة و وحدة بناء الأمم و عمارة الدنيا و يستوي في ذلك المسلم و غير المسلم و لكن أحببت أن أسوق هذه القصة لأنه يوم أن أهدرت قيمة الإنسان في عالمنا الإسلامي و العربي تحديدا تهاوت كل القيم و الأركان التي يقوم عليها البناء و هانت علينا أنفسنا و أوطاننا وأصبحنا في ذيل الأمم.

و الفرق بين الإنسان في الغرب و الإنسان في العالم العربي ليس الذكاء و النجابة و التفوق في شتي مجالات الحياة و العلوم و لكن  هو أن الإنسان الغربي يحترم ذاته أولا و يدرك واجباته و كذلك يعي حقوقه أما عن الدولة فتحترم ذات الإنسان و تنظم له حياته فقط و تتركه فإن أجاد فله الإشادة و التقدير و آن أخطأ و قصر و تهامل فهو عرضة للعقاب  و الرقيب عليه وازع الضمير و كذلك الخوف من العقاب و لا تسوقه كما يساق القطيع كما عندنا ، افعل و لا تفعل و لابد من رقيب عليه رغم أن لديه رقيبين؛ رقابة الرقيب ، الله عز و جل ، و رقابة ضميره.

لكن إهدار قيمة الإنسان أدت إلي غياب الدور التربوي للدولة و الأسرة و المدرسة و المؤسسات الدينية و الدعوية فادي ذلك إلي غياب الرقابة الذاتية و رقابتنا لله عز و جل فينا فانتشرت شتي الرذائل في مجتمعاتنا من الرشوة و المحسوبية و الغش فانطبقت علينا الآية الكريمة :

( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) التوبة (109)

لا يستوي مَن أسَّس بنيانه على تقوى الله وطاعته ومرضاته، ومن أسَّس بنيانه على طرف حفرة متداعية للسقوط.

و هذا هو حال مجتمعاتنا العربية التي تنكبت لتعاليم الإسلام الذي رسخ لقيم الحضارة و من هذه القيم، قيمة الإنسان

البنية التحتية لبناء الحضارات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى