لأميرة المدينة السمراء الساكنة بثنايا الوجع 

يونس العموري | فلسطين

تقدم أيها الموت وخذ حصتك وارحل، تقدم أيها الموت وجها لوجه ولا تكن مباغتا واحصد أرواحهم فقد ملوا المطاردة، وملوا الرحيل، وأيها الحطابون البسطاء أوقدوا النيران في خيامكم واعتلوا قمة أحد ولا تأبهوا للغنائم واعلموا أن الموت قادم إليكم فموتوا بهدوء، وأفسحوا المكان للشيطان بأن يسود فهذا ليس عصركم ومن الممنوع عليكم أن تعتاشوا وتحيوا في كنف أطواق الياسمين وزهر اللوز، انتظروا الموت كما تشتهون ولا تخجلوا من هزيمة القيصر فهو أمير الجبناء ولم يكن يوما نبيلا من النبلاء أو فارسا يمتطي صهوة اليمامة الزرقاء، كان يختفي خلف معاناتكم وبليلكم يتغنى ولا تفرحوا كثيرا لرحيل القيصر فخلف موت كل قيصر، قيصر جديد وجبان آخر يتاجر بأحلامكم ويحاول أن يستصرخ عطفكم …

أيها البسطاء الجالسون في الطرقات الوسخة اطردوا جميلاتكم من المكان حيث إنهن سبايا العصر الجديد وعتقوا خمركم فجند الصدفة سيعبرون المكان وإن كانوا بالضاد ناطقين ومخططات (هينبال) لم تجدكم نفعا فقد خانوه جنرالات وأمراء الحرب وتجار ليالي المدائن العتيقة، اعلموا أن تكبيراتهم لن تعلوا بفضل موتكم وقتلكم سيحدد مسار موتهم وقتلهم ونهايات أحلامهم …

أيها الليل انتظرهم قليلا ليلتقوا مع جميلاتهم وامنحهم القليل من الموت قبل أن تعلن عن موعدهم مع النوم الأبدي في كهوف مكفهرة باردة، فالله سيعلن عن موتهم أيضا وإرادة البسطاء من إرادة الرب،  وهم التواقون لإغفاءة ولو قليلة على اكتاف الحبيبة، والخنساء ستطأطئ رأسها احتراما وإجلالا للثكالى اليتامى الضائعين الهائمين على وجوههم ورقعة الجغرافيا المسماة بالوطن ستظل كما هي دون أن تختفي الجبال وقلاع البحر ستستقبل الأساطيل من جديد بصرف النظر عن المُنتصر وذاك المهزوم وبحر عكا أمواجه ستظل تلاطم أسوار القلاع العتيقة وأسوارها ستظل العصية على نابليون وسيرجع يجرجر أذيال الهزائم، وللنصر وجهان، والرقيق والسبايا هم سادة وسيدات القبائل المهزومة على أطراف القبائل المتناحرة وتاج كسرى سيتوج الرأس المعممة بالوشاح الأسود وصغار القوم بأطراف المدينة الجديدة سيحاولون أن يعتلوا أسطح منازلهم مكبرين مهللين متضرعين للرب بأن يحمي عرينهم ….

كان لها سادة وأمراء، يعرفون بالضبط  ألغازها، وللمدينة رموزها، تفككها أميرة سمراء سكنت بثنايا الوجع والفرح، وسكنها الجنون، وأرخى بستائره، بكل لغاتها تبحث عنه، وتتأوه تحت ضربات القسوة، تعايش لحظتها، وتبكي شقاوتها، تصرخ بوجه رجولة تائهة، تضيع في ظل خربشات الغازه، وتبحث عنه بعيون عشاقها، تفتح ذراعيها للقادم من بعيدها، وتسكنه بين ضلوعها، وتصمت عن الكلام، وتستمع لأبجديات القصة من جديد، يا عاشق القصة، وناظم الحكاية، والمسافر مع الغمام، والمناجي للرب، والمنكسر عند نظرة عينيها، ألقى عليها بعضا من مزاميرك وامضِ،  فلا وقت للبكاء على أطلال الحكاية، التي أضحت سرابا، وصارت جزءًا من أساطير حكايات المدينة التي تختفي خلف كوابيسها في اللحظة الفارقة ما بين هويتها وعنوانها الذي كان أن تمنطق بلغة يعرفها من كان يختبئ بزواريبها وأزقتها باحثا عن حقيقته، ومن أعلن عن عشقه بوضح النهار مجاهرا مكابرا مكبرا بأسمائها، وأعلن عن قدومه وسط زيف من ادعى زورا أنه سيد المدنية وحامي عرينها، ولعلها الحقيقة الراسخة التي لابد من أن يعيها الجميع دون تأويل أو تخريب أو تشويه، فالمدنية هي التي تختار سيدها وأميرها وهي من تعلن عن أمرئها وسادتها وتلفظ كل من جاء على صهوة المرسوم والفرمان الممهور بتوقيع فخامة سيد اللحظة الفارقة والصدفة القاتلة، والعابرة للمكان والزمان تعلنها بالرفض المكلل بالتمرد على فرمانات السلطان، وهي أميرة القلاع العظيمة المُنتصبة بكل شموخ تصرخ بلغة تعرف أبجدياتها منذ أن كانت.

تحت جنح الليل تتسلل حواريها،  والغاصبون نائمون، وتهرب من أزقة الحواري العتيقة، فالليلة يغريها الرحيل، على متن موجة آتية من بعيد، وتسير بدرب المسيح، باحثة عن وجودها وحقيقة فعلها، وعبثية عيشها، وفي باحات المسجد العتيق تبتهل لإله الكلمة الأولى، وهناك عند صخرة الرب تتكور جالسة ، وهي الناسكة المتعبدة ، تقص على مسامعها عذاباتها ، وتسترق السمع لآهاتها، وتنوح نواحها الشجي الحزين، لتطرب قلوب الحزانى، فللحزن طربا وموسيقى، وستمتطي صهوة الريح، وستحط بأنفاسها بليل أطراف المدينة، فليل كل المدائن واحد وليلكِ غريب.

الأميرة السمراء كان لها القرار، والقرار هنا لها وحدها دون غيرها، وكانت أن ضبتطها الفراشات وهي محلقة بسماء غمامها، وأمسكت بها الريح وهي تعلو فوق سطح أحلامها، وقالت لها الحكايا وأقاصيص من عبروا، ووردة بيضاء على جسد حقيقتها تفوح بريحها، وتكشف عن لوعتها، وتسافر وإياها نحو حكايتها، وإلياذتها،  وفصول كتابها، وسطور تكتبها على جدران المدينة الرابطة على تلة التاريخ، ومنذ أن عرفتها، ومنذ أن سكنت وجدانها، وتربعت على عرش الرواية للمدينة  المُنتصرة المهزومة والمنكسرة والصامدة والمتناقضة والعابثة بسردية الأسطورة، هي من قالت للشمس أنا هنا فاسطعي متى شئت وغيبي متى أردت، وهي من حفرت اسمها بكل طرقات ودروب عاشقة تهوى الليل، هي من يسكنها الليل، هي الشقية، العابثة دوما بليلها، وتقض مضاجع من يعبث بيومياتها ولحظات سكون أمسياتها بحضن البيوت المتلاصقة، وهي من تقتحم أحلامهم، وتسكن مرثياتهم.

هي من ترسم صورها وصورهم بكل لوحاتها، وهي الأن تستعد للرحيل، وتريده رحيلا بلا نحيب أو عويل، فيا أيها الشقي، يا من كنت سيد الرجال، أنت الأن أصغرهم، وغلام من غلمان القصر، وقد عدت إلى حقيقتك، فحينما يغادرك الصدق مع الذات، تصبح بلا عنوان، وتصير جافا،  وحينما تصبح العاجز عن حماية وحراسة أحلامها وبيتها، ويصير المباح أشواكا تزعج مناماتك، وتغزوا الأحزان ذاتها، وقلبها يصبح مملكة لدمامل مرثياتها، يا سيدي أنت الأن تتكور على ذاتك، ولربما ستعلن عن انتهائك، وحتما ستعود إلى جحرك، بلقبك الجديد الممهور بتوقيع كبير سدنة المشعوذين، لتباشر بممارسة فعل الحياة، وحراسة البيت المهجور وقرنفلة حمراء ذابلة بفنائه كانت الشاهدة الشهيدة على مذبحك، ولتجثو عند قبر حقيقتك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى