التأصيل الحضاري، بين الفرد والمنهج (3)
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
“لقد كانت للعرب دولة من الكلام.. لكنها ظلت بلا ملك حتى جاءها القرآن” .. هكذا تحدث الرافعي رحمه الله عن هذه المملكة الجديدة التي لم تعرف البشرية مثلها، وهذا المَلٍك الذي جاء يؤسس ويكمل، ويبني وينقض، ويقيم ويعزل، ويضع ويخفض، ويجعل لهؤلاء الشراذم ذكرا في الأولين والآخرين “لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون”.. “وإنه لذكر لك ولقومك..” .. “.
لقد جاء هذا الملك ينقض أخلاق الجاهلية وأعرافها وعباداتها ويبطل منطقها، ويقيم مكانها دولة من العبادة والحكم والأخلاق والقيم لقيادة البشرية، لا حتى يحين زمان نبي بعد فترة من هذه الرسالة، إنما حتى قيام الساعة؛ ولذلك شاء الله أن يكون هذا المنهج مكتوبا مقروءا .. فقال “ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين” ، “كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته.. “.. وقال: “إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون”.. “إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون”.. “وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا”..
كما جعله كذلك رفعة وذكرا لمن اتخذه منهجا ونبراسا، وعمى على المعرضين ووقرا في آذانهم“وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)”[فصلت]، وبه اكتسبوا واكتسوا هذه الخيرية التي فضلوا بها على العالمين، وورثوا هذا العهد الذي جحده بنوإسرائيل وحرفوه ونبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا؛ فشاء قدر الله أن يستبدلهم ويستخلف من بعدهم هذه الأمة وارثة المنهج حتى قيام الساعة.. وعلى إثرها أيضا تألبت عليهم الأمم ورموهم عن قوس واحدة، واجتمعوا عليهم من كل صوب وحدب، وناصبوهم العداوة من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وزاغت بهم الأبصار وبلغت القلوب الحناجر… كل ذلك ليعلموا أن الأمر جلل وأن الحدث عظيم، وأنه لا يقوم به أولوا الهمم الخاوية، ولا القلوب الضعيفة، ولا العزم الخائر .. إنما انتخب له من حقبة التاريخ رجال جاء وصفهم كما ذكر القرآن:
“لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِفِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)”[التوبة].. “رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)”[النور].. “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)”[الأحزاب].
ولنتأمل بعض أوصاف الرجال التي عددتها الآيات، ونقارن بينها وبين عادات وأوصاف رجال الجاهلية التي عدها (جعفر بن أبي طالب) رضي الله عنه حين وفد على النجاشي..فقال: أيها الملك! كنّا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويّ منا الضعيفحتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا لتوحيد الله، وألانشرك به شيئا، ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام..
وعدّد عليه أمور الإسلام؛ قال جعفر: فآمنا به، وصدقناه، وحرّمنا ما حرم علينا، وحللنا ما أحل لنا، فتعدّى علينا قومنا فعذّبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورجونا ألانظلم عندك …” (1)
ثم انظر بعض أوصاف الرجال حين هذبها القرآن، فخضد شكوكتها، وألان قناتها، وأخبت قلوبها لله.. وأذلها على المؤمنين وأعزها على الكافرين، فكانت على ما يرضي الله وما يصلح به حال البشر والكون، فجاءت في سورة التوبة: تقوى الله ورضوانه والطهارة البدنية والنفسية من الشرك والخبث، والنجس والرجس، وفي سورة النور: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشية من لقاء الله في يوم لا تثبت فيه إلا قلوب المؤمنين الصادقين المخبتين.. ، وأما في سورة الأحزاب: فجاءت كأنها نتائج مترتبة على الأوصاف السابقة من الإيمان والتقوى والخشية فكان الثبات أمام الأحزاب والتصديق بوعد الله بالنصر أو الشهادة، وبيع النفس والمال لله لقاء الجنة وابتغاء رضاه والدار الآخرة .
إن دولة الكلام وإن اتسمت في أيام جاهلية العرب بالفصاحة والبلاغة والطلاوة، وحسن السرد والسجع والرجع، وطرابة الوزن، وحداء النغم، وسلاسة اللفظ وقوته؛ إلا أنها لم تكن يوما ذات منهج ولا خلق ولا دين .. إنما كانت للفخر والرثاء والغزل والحماسة؛ والجهالة أحيانا؛ فلما جاء القرآن أفحمهم بلاغة وطلاقة وطلاوة وعبارة وسجعا وجرسا.. لكنه كان مع كل هذا وعاء لمنهج علوي لا يتأتى إليه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا تسم لغة ولا عقل لمقارعته، ولا تشرئب نفس لها قلب أن تأتي بمثله أوشيء من مثله ولو اجتمعت نفوس الجن والإنس فكان بعضهم لبعض ظهيرا..
فقد ارتقى بفصاحة اللغة وعلويتها وقداسة المنهج وحاكميته على كل ما سبقه ، وما يأتي بعده “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)”[التوبة]. لم يكن هذا الكتاب إلا ثورة على البشرية المغرقة في مجاهل السرف والترف والانتكاس لثوابت الفطرة وأصائلها، والسادرة في التشرذم والعنصرية والاستعلاء لبعض البشر على بعض، والاستعباد لبعضهم البعض، والفرار من مقتضات الأديان السابقة، والأخلاق الصالحة، والانحدار التردي إلى مدارك الجاهلية الدينية والخلقية والاجتماعية والاقتصادية، والاحتكام إلى شريعة أقرب ما تكون إلى شرعة الغاب..إلا أن شرعة الغاب ليست متفلتة من أطر الفطرة وقوانينها، ولا ناكصة عن جبلتها التي خلقت عليها إنما هي تحفظ دوما توازنها البيئي والنوعي والحتمي ولا تعدو إلا على ما يقيم حياتها ويحفظ بقاءها ثم هي ممسكة عازفة عما سوى ذلك ..
أما البشرية فقد كانت مفسدة طاغية ظالمة لنفسها ونوعها وكونها، وعادية على ما سواها من الخلق في الكون الذي سخر لها “وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)”[البقرة].
ثم جاءها هذا الملك (القرآن) ليقيم ما تصدع من بنائها العقدي والخلقي فيردها إلى عهد الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها، ويعدل ما غيرت من خلق الله “ذلك الدين القيم “، ويضع عنها إصر التقاليد المجتعية والعصبية الجاهلية التي أزهقت الأرواح، وقطعت الأرحام وأفسدت ذوات البين وأهدرت الأموال وصرفتها في غير صلاح البشر وفي غير رضا ربهم (الرزاق)..
وليعيد صياغة هذا البناء النفسي على أسس الفطرة الحميدة، وأصول الشرع العلوية القويمة .. ثم ينطلقبه حامله في أرجاء الأرض وأطرافها، مشرقها ومغربها مبلغا ومؤديا وحاكما ومحققا مراد الخلافة في الأرض بالإصلاح والإعمار“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)”[البقرة].
^^^
المراجع:
(1) فقه السيرة (الغزالي) الجزء الأول.