العلّامة عبد الرحمن سالم .. أديب المؤرخين!

صبري الموجي | مصر

يُؤكد اقتناصُه المركز الأول بالفرقة الأولي بدار العلوم من بين ثلة من الطلاب صاروا فيما بعد عباقرة الدار ومحط رحال الباحثين، أن هذا الأمر لم يكن من فراغ، أو جاء خبط عشواء، بل كان عن جدارة واستحقاق.
صار كلُ فرد من هذه الثلة المباركة نسيجَ وحده، فحماسةُ سيبويه الدار، وحامي لسانها من اللحن، ودرويش فصيحُها وبليغُها، وإليه فضلُ تحليق الدرس النقدي والبلاغي إلي آفاق عالية رحيبة، والجَليند قامعُ البدعة في مهدها، وناشر عقيدة أهل السنة والجماعة، ومدكور باني الأخلاق وناشر علمي القيم والجمال، ومحمد إبراهيم شريف حامي حمي الشريعة، ويأتي صاحبُنا مدارُ الحديث، وعمود خيمته، فيرسخ لعلمي التاريخ والحضارة، ويغوص في أعماق فلسفة التاريخ؛ ليخرج لآلئ ذلك العلم وأصدافه النفيسة، بل ويعلمُه للآخر؛ بفضل إتقانه للإنجليزية تماما كما يُتقن العربية.
تتعاقب سنواتُ الدراسة في الجامعة، ويشتدُ وطيس المنافسة بين هؤلاء الطلبة النوابغ، ليحوز كلٌ منهم المركز الأول مرة، دون أن يتركوا لعبد الرحمن سالم احتكار ذلك المركز وحده، ليُثبت حالُهم أن التفوقَ سجالٌ، وأن المعالي ليست منحا، بل هي وليدةُ الجهد والكفاح.
كان العلاَّمة أ. د عبد الرحمن سالم رِبعة بين الرجال، فليس بالطويل ولا القصير، كما لم يكن بالبدين أو النحيل، وإن كان للنحالة أقرب، لكن ذلك الجسم حمل عقلا تصغُر أمامه عقولُ العباقرة والمفكرين.
في قاعة الدرس كان شعارُ سالم الالتزام والنظام، اللذين لم يفرضهما علي طلابه قسرا، بل حرص عليهما الطلابُ تشبها بالأستاذ الذي كان فيهما آية وحُجة.
كان التزامه أمرا جبليا وليس تكلُفا، إذ كانت محاضرته مُحددة البدء والانتهاء، دون تقديم لحظة أو تأخيرها، وليس من قبيل المبالغة إن قلنا إننا كنا نضبط ساعاتنا علي موعد محاضرته وليس العكس !
بلغ التزامُه بالمحاضرة حدا عجيبا، إذ كان لا يصرفُه عنها صارفٌ من فرح أو ترح، وكان إيمانه بحق الطالب في التعلم عقيدة وعهدا قطعه علي نفسه وأبي أن يخالفه ولو مرة .
لم يكن التزامُه أوحدَ محاسنه، بل صاحب التزامه نظامُه ودقتُه المتناهية سواء في صياغة الفكرة، أو شرحها لطلابه، الذين اعتادوا أن يجلسوا أمامه وكأن علي رءوسهم الطير؛ انبهارا بما يسمعون، وخوفا من أن تفوتهم كلمة، أو تهرب عن أسماعهم لفظة من ألفاظه، التي كانت أشبه بسبائك من ذهب يتنافسُ عليها المشترون.
كانت قاعةُ المحاضرة مكانا للدرس والتعلم، وبجانب ذلك كانت ورشة تدريب وإلقاء، إذ كان سالم ذا صوت رخيم واضح، ولغة فصيحة بينة، أهلته للعمل مُذيعا فترة من حياته، لم تدم طويلا لشغفه بالعمل الجامعي، وأزعم أنه لو استمر بالإذاعة ، لصار أحدَ نجومها الكبار.
أمَّا عن كُتب العلامة عبد الرحمن سالم ، فحدث ولا حرج، إذ كانت مُحددة الفكرة، دقيقة العبارة، سلسة الأسلوب، رصينة اللغة، زاخرة بالبلاغة، وكيف لا وهو ابن جلا وطلاع الثنايا !
سطرت يدُ العلامة سالم عدة كتب أثرت المكتبة العربية والإسلامية منها : الرسول صلي الله عليه وسلم .. حياته وتطور الدولة الإسلامية في عصره، التاريخ السياسي للمعتزلة، والنظام السياسي في الإسلام، وغيرها من الكتب والأبحاث، التي اتسمت بالدقة والشمول، والوصول من أخصر طريق إلي قلب ووجدان القارئ.
ولم تقل معرفة سالم بالإنجليزية عن معرفته بالعربية، لهذا اختير لتدريس التاريخ الإسلامي والحضارة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، فكانت قاعة الدرس أشبه بمحراب، يُخيم عليه صمتُ الحضور، ولا يُسمع فيه غير صوت العلامة سالم، الذي كان يتسلل لا إلي الآذان، بل إلي القلوب والأفهام ، فيصنع ما يصنع الماء بالأراضي العطشي.
لم يغب – رغم حبه لعدم الظهور – عن المؤتمرات والمحافل التي تُعرف بصحيح الاسلام، وتُثبت أنه دينُ الوسطية والاعتدال، إيمانا بأن ذلك واجبٌ ورسالة، فكان في حضوره نجما ساطعا، وقمرا مضيئا، يُبدد ظلمات العتمة والدجي.
لم يفت صاحبَنا أن يُدلي بدلوه في الصحف السيارة، فكانت مقالاته ومشاركاته في التحقيقات الصحفية الجادة ضمانة رواج الصحيفة وانتشارها.
ولأن الكلامَ في فلسفة التاريخ يحتاج إلي عقل راجح ؛ إذ إنه علمٌ لا يقف عند الحدث، بل يتطلع إلي ما وراءه من معني ومقصود، فإن محاضرات سالم في ذلك العلم، كانت مجمع الأساتذة قبل الطلاب، يتسابقُ عليها الجميع، ويحرص عليها الكل؛ ليحصلوا منها الكثير والكثير .
ولم تكن أخلاقه أقلَ من علمه، بل كان فيها آية أيضا، فدائما ما يكون بسَّاما عند اللقاء، كريما في العطاء، طيب الحديث، حسن المعشر، وهو ما جعله محبوبا من الجميع، وأهلا لثناء كل من عرفه وعامله.
ولإلمامه بشتي فنون العربية، وموسوعية معرفته اختير وعن جدارة خبيرا بمجمع اللغة العربية؛ ليُسهم مع علماء مجمع الخالدين في سطوع شمس العربية وازدهار نجمها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى