بالحبر الأبيض.. سيرة صحفية (٣١)

عليّ جبّار عطيّة | رئيس تحرير جريدة أوروك العراقية

أخطاء الزعماء وزعماء الأخطاء !!

قرأتُ رأياً وجيهاً للزعيم الديني للبوذيين التبتيين الدالاي لاما الرابع عشر (تينزن غياتسو) الحاصل على جائزة نوبل للسلام سنة ١٩٨٩م يقول: (السلام لا يعني غياب الصراعات، فالاختلاف سيستمر دائماً في الوجود.. فالسلام يعني أن نحل هذه الاختلافات بوسائل سلمية عن طريق الحوار، والتعليم، والمعرفة، والطرق الإنسانية).
أتذكر هذا الرأي حين تتحول غرفة قسم التصحيح في جريدة (العراق) إلى منتدى للحوار تُجرى فيه نقاشات قوية، ومساجلات ساخنة، تخوض في المحذور أحياناً !
أنقل بعض ما يدور من نقاشات الزملاء المصححين كونهم عاصروا أحداثاً كانوا شهوداً على بعضها؛ لهذا تكتسب أحاديثهم أهميةً لأنَّها تُعطي صورةً عن طبيعة تفكير المتحدثين، وزوايا نظرهم، ولا تخلو من فائدة.
كنتُ أُصغي لهم باهتمامٍ بالغٍ، وألتقط المعلومات التقاط الطائر الحَب، وبعد انتهاء عملي، وعودتي إلى البيت أُسارع إلى تدوينها!!
كان النقاش في أحد الليالي عن ذكريات الزملاء عما جرى من أحداث يوم الاثنين ٢٦/من ذي الحجة/١٣٧٧هـ الموافق ١٤/ تموز/ ١٩٥٨م.
قال المُصحّح عبد الإله القره غولي (أبو ليلى): عندما قامت الثورة كان عمري ١٤ سنة فخرجت من بيتنا، ووقفت أمام مبنى إذاعة بغداد في منطقة الصالحية، فشاهدت المذيع عادل نورس وهو يهم بالخروج، وهنا هتف أحد الحاضرين من الجماهير: أُقتلوا عادل نورس فما كان منه إلا أن أسرع هارباً إلى داخل الإذاعة، ونجا من القتل العشوائي لرموز العهد الملكي .
علَّق المذيع ريسان مطر: نظير هذه الحادثة رأيت المذيع كاظم الحيدري قد جاء إلى الإذاعة فصاح أحد الحاضرين: اعدموا كاظم الحيدري! وهنا انتبه الحيدري للمنادي فما كان منه إلا أن ألقى إليه بساعته الذهبية الثمينة، وقد تناولها الشخص الغوغائي منه كغنيمةٍ، وكف عن المطالبة بملاحقته !
يضيف ريسان: أما المنظر البشع الذي لا ينسى فهو مشهد الدبابة التي تعمد سائقها أن يدعس رجلاً أشقر البشرة يشبه رئيس الوزراء في العهد الملكي الدكتور محمّد فاضل الجمّالي.
وأكثر ما أثار استياء ريسان مطر هو الهياج الجماهيري المؤيد لهذه الجريمة العلنية البشعة ظانين أنَّه الجمّالي، وبعد هذه الحادثة بأسبوع أُذيع خبر القبض على محمّد فاضل الجمّالي !
ولا بأس أن نتطرق بشيءٍ من الايجاز إلى هذا الرجل الذي قتل الغوغاء شبيهاً له !


محمّد فاضل الجمّالي هو تربوي ومؤلف وسياسي بارع، ودبلوماسي، ووزير. ولد سنة ١٩٠٣م في مدينة الكاظمية. يجيد اللغات الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، والتركية، والفارسية.
حاصل على شهادة الدكتوراه في علوم التربية من جامعة كولومبيا في نيويورك سنة ١٩٣٤م وكان عنوان أُطروحته (العراق الجديد) .
عُين مدرساً في دار المعلمين العالية، وتدرج في المناصب العلمية حتى رقي إلى مرتبة أستاذ، ثمَّ صار مديراً عاما للمعارف، ورئيساً للتفتيش العام.
يُعد من الأعضاء المؤسسين للأمم المتحدة سنة ١٩٤٥م، ومن المطالبين باستقلال الدول العربية خاصة دول المغرب العربي من خلال المحافل الدولية الدبلوماسية.
صار وزيراً للخارجية العراقية في حزيران عام ١٩٤٦م في حكومة أرشد العمري وأختير عضواً عاملاً في المجمع العلمي العراقي عام ١٩٤٩م، وانتخب رئيسا لمجلس النواب عام ١٩٥٢م ولمرتين، ثم أصبح رئيسا للوزراء سنة ١٩٥٣م – ١٩٥٤م وأصدر جريدة يومية سياسية في بغداد باسم (العمل) في ١٩٥٧/١٢/١٤م التي رأس تحريرها جعفر عباس الحيدري وكانت آخر وظيفة شغلها هي بصفته وزيراً للخارجية حتى سقوط الحكم الملكي.


اعتقل في تموز سنة ١٩٥٨م وحكمت عليه محكمة الثورة العسكرية برئاسة العقيد فاضل عباس المهداوي بالإعدام شنقاً حتى الموت، لكن تدخل رؤساء بعض دول العالم أدى إلى الإفراج عنه بعد ثلاث سنوات من اعتقاله ومحاكمته وإدانته .
يقول السياسي فائق الشيخ علي في تغريدةٍ له على حسابه الشخصي في تويتر بتاريخ ٢٠٢٠/٥/٦م‏‎ [سألتُ رئيس وزراء العهد الملكي الدكتور محمّد فاضل الجمّالي : هل داغ همرشولد (أمين عام الأمم المتحدة) هو الذي أنقذكَ من الإعدام؟
أجاب: هو وغيره أصحاب فضل عليَّ.. ولكنَّ الذي أنقذني من الإعدام هو الملك محمد الخامس، الذي زار العراق وقال لعبد الكريم قاسم: لن أعود للمغرب إلّا والجمّالي معي] .
أُطلق سراح الجمّالي يوم ١٤ تموز سنة ١٩٦١م، وخرج من العراق إلى سويسرا لاجئاً سياسياً، ثمَّ دعاه الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، وأكرمه، ومنحه الجنسية التونسية،
وعُين في منصب أستاذ فلسفة التربية في جامعة تونس، وأقام في تونس مع زوجته الكندية الأصل.
دُعي سنة ١٩٩٥م إلى حضور احتفالٍ في مقر الأمم المتحدة بمناسبة مرور نصف قرن على تأسيسها بصفته من الأعضاء المؤسسين، فكتب لهم رسالةً قال فيها: (إنَّ الأمم التي تحاصر بلدي وتقتل الأطفال والعجزة وتصنع الموت لن أحضر احتفالها) .
وكانت للجمالي بصمات في تطوير التعليم في تونس، ونيلها الاستقلال، وبقي فيها حتى وفاته سنة ١٩٩٧م.
يقول الجمّالي في مذكراته في اعترافٍ نادرٍ: (النقص الكبير في الدولة العراقية هو: أننا لم نثقّف الشعب العراقي كما يجب. وبصفتي مسؤولاً عن التعليم، فأنا أتحمل جزءاً من مسؤولية تدهور التعليم في العراق؛ لقد اعتمدنا العلمانية في مناهج الدولة وكان هذا خطأ فادحاً، كان يفترض أن يكون التعليم إسلامياً فالعراقيون معظمهم من المسلمين).
سألت ريسان مطر عن المدة التي يعدها أفضل مدة في الحكم الديمقراطي في العراق فقال :إنَّها سنوات الخمسينيات لغاية سنة ١٩٥٨م، وهي من أزهى سنوات الديمقراطية في الدولة العراقية بعد استقرار الوضع، وانتهاء حرب ١٩٤٨م، وتولي نوري السعيد مسؤوليه ارساء دعائم الحكم، وكان المعتقل السياسي له حقوق ويُعامل باحترام، ويخصص له أجر يومي قدره ٦٥٠ فلساً، وكان مبلغاً جيداً وقتها ينفق منه السجين ٢٥٠ فلساً ويدَّخر الباقي حتى إذا انتهت مدة محكوميته كان يخرج وبحوزته ثروة يُمكن أن تصل إلى مئة دينارعراقي .
يورد هذه الحكاية يقول: كنتُ ومجموعة من الطلاب ممن هتفوا بسقوط نوري السعيد فمر السعيد من أمامنا، وكنا لا نعرفه لأنَّ الصحف لا تنشر صور رؤساء الوزراء دائماً، وترجل من سيارته، وسألنا: أنتم تقولون: يسقط نوري السعيد، وها أنا نوري السعيد أمامكم أقول: فليسقط نوري سعيد، فماذا تريدون؟
يضيف: كان معنا مدرس اسمه محمد مصطفى فسألناه: هل هذا هو نوري سعيد؟ قال: نعم. وكان يكره نوري السعيد.
فأجاب محمد مصطفى: نريد سيارات !
رد نوري السعيد: نعطيكم سيارات لتفسدوا. ثمَّ أضاف السعيد :إنَّ كل من جاءته ثروةٌ بغير تعب فسد، ومن الممكن الحصول على السيارة بدفع ثمنها على أقساط، ولكنَّ هذا يؤدي الى الفساد.


يرى ريسان مطر أنَّ هناك ثلاثة أخطاء ارتكبها الزعيم عبد الكريم قاسم رئيس وزراء العراق بعد ثورة ١٤ تموز/١٩٥٨م وهذه الأخطاء هي التي عجلت بنهايته. أولها: مجاهرته في عداوة الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان دكتاتوراً قوميا، وكانت القومية لها موجة قوية، وكان الأخ مستعداً لقتل أخيه من أجل جمال عبد الناصر في حين كان توجه عبد الكريم قاسم عراقياً ضد القومية وكان يرفع شعار الجمهورية العراقية الخالدة. ثاني الأخطاء: عدم لجوء عبد الكريم قاسم إلى الشيوعيين، أو القوميين لدعم حكمه.


ثالث الأخطاء: فسحه المجال للشيوعيين للصعود الى الأماكن المهمة في الدولة.
سألته : ماذا تتوقع للدولة العراقية لو استمر حكم عبد الكريم قاسم؟
قال: تزداد المجازر أضعافاً لأنَّ عهده كان عهد مجازر، وهو كان دكتاتوراً !
قلتُ له: لكنه كان محبوباً !
ردَّ عليَّ: لم يحبه غير أهل الجنوب لأنَّه سمح لهم باستغلال أي أرض في بغداد فتمزقت بغداد!
قلتُ: لو لم يكن عبد الكريم قاسم في السلطة رئيساً للوزراء، فمَنْ هو بديله؟
قال: أظن أنَّ هناك عدة شخصيات من تنظيم الضباط الأحرار كانوا من القادة العسكريين المستنيرين يُمكن أن يقودوا البلد أمثال ناظم الطبقجلي، ورفعت الحاج سري، وناجي طالب (رئيس الوزراء سنة١٩٦٦م ـ ١٩٦٧م)
علق عبد الإله القره غولي بالقول : لو أُنشىء مجلس قيادة الثورة بعد ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨م لكان الحكم أفضل.
سألت ريسان مطر: وما رأيك بعبد السلام عارف وأخيه عبد الرحمن عارف؟
قال : عبد السلام عارف فلاح مثقف ولا شأن له بالسياسة، أما عبد الرحمن عارف فهو رجل وضعته الأقدار في الحكم ولا شأن له بالسياسة أيضاً، ويُنقل عنه بعد أن صار رئيساً للجمهورية قوله: (كنا وين، وهسه وين، كنا نتمشى في شارع الرشيد، ونشرب شاياً بالمقهى ونحلق عند الحلاق براحتنا !)
سألته عن العقيد فاضل عباس المهداوي رئيس المحكمة العسكرية التي شكلتها الثورة؟
فقال: كان مهرجاً لا علاقة له بالمحاكم برغم أنَّ المحاكمات كانت علنية، وعادلة، أذكر مرة أنَّ المهداوي خاطب متهماً بالتجسس لصالح بريطانيا بالقول: راح أطلع دهنك، فحار المترجم في ترجمتها إلى اللغة الإنگليزية، وحين ترجم الكلمة، ضحك المتهم !
سألته: هل لحزب البعث دور في ثورة ١٤ تموز؟
قال: نعم. ومن أبرز المشاركين فؤاد الركابي[فؤاد أحمد الركابي، ولد في الناصرية سنة ١٩٣١م، وهو مهندس مدني. مؤسس القيادة القطرية لحزب البعث في العراق.
صار وزيراً للإعمار في حكومة عبد الكريم قاسم، ثمَّ استقال في شباط سنة ١٩٥٩م.
اعتقل بعد صعود حزب البعث إلى السلطة سنة ١٩٦٨م، وقُتل طعناً بالسكين في سجن بعقوبة سنة ١٩٧١م قبل يومٍ من انتهاء محكوميته بحادث شجار مدبر، وكان المسؤول عن الأجهزة الأمنية صدام حسين حسب ما يروي وزير الإعلام في حكومة البعث حامد الجبوري لبرنامج (شاهد على العصر) للإعلامي أحمد منصور في قناة (الجزيرة) ] .
لا ينسى ريسان مطر ما فعله جمال عبد الناصر من فعلةٍ يصفها بالحقيرة حين أمر بسحب جميع المعلمين والمدرسين المصريين من مدارس العراق مما أوقف سير التعليم في العراق خاصةً في دروس الرياضيات والفيزياء والكيمياء، ويروي ريسان هذه الطرفة:
كان المذيع المصري أحمد سعيد له شهرة عريضة في أوساط الناس، فأرسل له أحد الشيوعيين رسالةً أخبره بأن المناضلة حسنة ملص (وكانت مشهورة بالبغاء) قد اعتقلت!
فما كان من أحمد سعيد إلا أن أذاع هذه الرسالة، وقال: بلغنا أنَّ السلطات العراقية اعتقلت المناضلة حسنة ملص !
يروي ريسان مطر هذه الحادثة:يقول: كُلفت بنقل وقائع زيارة الزعيم عبد الكريم قاسم إلى معهد الفنون الجميلة إذاعياً.
يضيف: كان صديقي النحات عبد الرحيم الوكيل (١٩٣٦م ـ ٢٠١٧م) (رائد النحاتين التجريديين في العراق) يقف أمام تمثال قد نحته يمثل إمرأةً تفتح القيود، ويشرح للزعيم كيف جَسَّد إمرأةً تريد التحرر. وما أن أنهى عبد الرحيم الوكيل كلامه حتى هتف الزعيم: (إنَّنا سنحرر المرأة).
ومن دون قصد ضربت يد الزعيم التمثال وسقط على الأرض، وتهشم !
يردف: كنتُ أبتسم بينما كانت ملامح الحزن قد غطت وجه صديقي الوكيل على تهشم منحوتته!
يتفق ريسان مع رأي صحفي هندي قابل عبد الكريم قاسم ووصفه بالقول: هذا الرجل الذي وضع شعبه فوق المرجل !
(السيرة مستمرةٌ.. شكراً لمن صبر معي.. يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى