الفنان المسرحي قاسم محمد وعلي جبار عطيّة في حوارٍ استعاديّ

قاسم محمد يقول:

– رسالة الطير حالة تمرين دائمة

– المسرح العربي في طور التكوين

– أنا ضد مفهوم الشخصية الواضحة أحادية الجانب في العمل الفني

    أجريتُ هذا الحوار مع الفنان المسرحي الرائد قاسم محمد (١٩٣٤م ـ ٢٠٠٩م)ضحى الاثنين الموافق١٩٨٨/١١/٢١م في الطابق الرابع من مبنى المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون في منطقة الصالحية ببغداد.
تهيّبت من مقابلته، وحين استرجع شريط الذكريات أقف مندهشاً لحياة هذا الفنان الذي ولد في بغداد سنة ١٩٣٤م وغادرها سنة ١٩٩٧م إلى الشارقة ، ولم يعد إلى العراق إلا سنة ٢٠٠٩م جسداً فارق الحياة المادية، ولم تفارق إنجازاته الذاكرة الفنية .
كنتُ وقت إجراء الحوار في مطلع فجر عملي الصحفي في الخامسة والعشرين من العمر، وكان الفنان قاسم محمد في سن الخامسة والخمسين، وفي قمة نضجه الفني لكنَّ ذلك لم يحل بيني وبين محاورته، خاصةً بعد أيام من مشاهدة عرضه المسرحي المثير (أنا لمنْ وضد مَنْ). استجاب الفنان العملاق للمقابلة بكل تواضع، ونبلٍ.
حاورته لمدة ٣٥ دقيقة ودوّنت الحوار على الورق، وكان يستعد للتدريب على مسرحية (رسالة الطير).


شكرته على سرعة الإجابة على الأسئلة ووهممتُ بالخروج لكنَّه أصر على أن أتقدمه فعلقتُ: هذه من (يوميات محلة)! في إشارة إلى الأخلاقيات التي طرحها مسلسله الجميل (يوميات محلة). وجدتُ حماسةً لنشر الحوار من الصديق الدكتور أحمد الدوسري، مدير مكتب جريدة الأنباء الكويتية في بغداد ، وكان وقتها طالباً في مرحلة الماجستير في كلية الآداب بجامعة بغداد، وتربطه بشقيقي الشاعر عبد الرزاق الربيعي صداقة درب، ومشروع ثقافي مما عزّز من حظوظه في النشر وحظي في اقتناص فرص الخير!
هكذا نُشر الحوار في جريدة (الأنباء) الكويتية بعددها المرقم ٤٦٦٥ الصادر يوم الأحد الموافق ١٩٨٨/١٢/٢٥م ص ١٦ في اليوم الذي أجرت فيه الجريدة حواراً مطولاً ساخناً مع الرئيس المصري محمد حسني مبارك، وهو أمرٌ ساعد على وصوله إلى أوسع شريحة من القراء!


ظل هذا الحوار حبيس الأرشيف منذ ٣٤ سنة افتقدتُ فيها نسخة الجريدة الوحيدة بسبب تراكم الصحف القديمة، وكثرة تغيير أماكن ممتلكاتي الثقافية ، وزحف التكنولوجيا!
كم كنتُ مسروراً ومحظوظاً حين عثرتُ على صفحات الجريدة المفقودة، وقد نجا الحوار من فم الجرذان وطريق حشرة الأرضة بأعجوبةٍ وإنْ لم ينجُ من الظروف المناخية ! لعلَّ فيه ما ينفع الباحثين عن تأسيس مسرح عربي.
أنوّه إلى أنَّ هذا الحوار فصلٌ من كتابٍ لي عنوانه (وجوهٌ في ذاكرة الأرض) معدٌ للنشر إنْ شاء الله يُنشر هنا للمرة الأولى لتسليط الضوء على تجربة الفنان الكبير قاسم محمد، أحد فرسان المسرح العراقي الذين غابوا أو غُيّبوا عن المشهد الإعلامي والفني ربما لأنَّه فنانٌ مختلفٌ يغرد خارج السياقات التقليدية .


قاسم محمد رجل مسكون بالمسرح، ومولع بالتجارب والتمارين ولا يرضى عن نفسه، لكنه يجهدها لإرضاء الآخرين! إذا افتقدته رأيته في التراث يطالع ما كتبه أبو حيان التوحيدي والجاحظ، وابن سينا والغزالي وغيرهم.
ثمَّ يصب ماقرأه في مسرحيات يخرجها بنفسه بكفاءة واقتدار عاليين! ومع هذا فهو يصر على أنَّه يتمرن ويجرب !
أخرج من جعبته التراثية هذه المسرحيات: (شخوص وأحداث في مجالس التراث)، (طال حزني وسروري في مقامات الحريري)، (بغداد الأزل بين الجد والهزل)، (كان ياماكان)، (رسالة الطير)وشارك في التلفزيون معداً ومخرجاً في مسلسل (يوميات محلة) ومسلسل (بيتنا وبيوت الجيران)، وله في التمثيل أدوار لاتنسى فهو (جساس) قاتل كليب في مسلسل (حرب البسوس)، وهو (مروان) المثقف الانتهازي في مسلسل (عنفوان الأشياء). قال عنه الكاتب الفريد فرج: (يعجبني قاسم محمد في تألق خواطره)، ووضعه ضمن أربعة كتاب عرب متميزين في الكتابة المسرحية العربية، لكنَّ الفريد فرج قال يوماً: (إنَّ المسرح العربي بلغ سن الرشد بعد محاولات كثيرة للتطور وبعد احباطات ) يا ترى أين يضع قاسم محمد المسرح العربي!في أي منها؟ تعالوا معي لنعرف ذلك في هذا الحوار.

أبدأ كلامي بتهنئة قاسم محمد على نجاحه في إخراج مسرحية (أنا لمنْ وضد منْ) لمؤلفها جليل القيسي، وهي من مسرح المونودراما (مسرح الممثل الواحد) وبودي أن أسال!هل هذا النوع من المسرح مثَّل تقدماً في الفن المسرحي أم أنَّه رجوع إلى فن الحكواتي؟
ـ إنَّ مسرح المونودراما مسرح قيم ، لكنَّ التسميات تختلف أو تحديد المصطلح يتباين تبعاً لمفاهيم وثقافة العصر أو متطلبات العصر، واختصاراً أقول: تبعاً لروحية العصر . ففي فترة تراه حكواتياً ، وفي فترة أخرى يسمونه واعظاً، وهكذا يتطور المصطلح والعمل الفني، والتطور يتم عن طريق الكشف والإضافة وتبعاً لذلك تتغير التسمية فتراه مونودراما.
ومونو تعني: مونولوج ومونوتون أي الأحادية في الأداء. فإذن ليس هناك جديد، وليس هناك رجوع إلى قديم، إنّما هي عملية مواصلة على صعد عديدة ومنها على الصعيد الشخصي ضمن الذات المبدعة في ما يخص الكاتب والمخرج والممثل.
فالكاتب جليل القيسي معروف بعطائه في نصوص الممثل الواحد، وكذلك الممثل رائد محسن يواصل طريقه في هذا المضمار .
وبالنسبة لي فإنَّ مواصلة العمل في هذا المجال تقع ضمن متطلبات تقتضيها حركة الفنان في الفن وفي حياة .
ونخلص إلى القول بأنَّ الروابط الجدلية التي تربط بين مكونات الفن والفنان والحياة مستمرة فبعث القديم يمكن تسميته عودة، وإحياؤه عملية جديد وهكذا .


هل هذه هي تجربتك الأولى مع المونودراما؟
ـ أنا عندي تجارب مع المونودراما منذ عام ١٩٧٢م عندما مثَّل سامي عبد الحميد مسرحية (الأغنية الأخيرة) لتشيخوف ،وقمت بإخراجها، كما أنَّني دربت الممثل وليد العبيدي في نفس فترة على مسرحية غوغول (يوميات مجنون)، ولكن العمل لم ير النور ولي الآن في الطريق تجربة أخرى.
أتعتقد أن المسرح العربي سيستفيد من هذا النوع ؟
ـ إنَّه فن حيوي والمسرح العربي يمارسه باستمرار وخذ من تونس الكاتب عز الدين المدني على رأس الإنجاز الحديث عندما عالج (رسالة التدوير والربيع) للجاحظ.

وضعك الفريد فرج مع عز الدين المدني ومحمد الماغوط كثلاثة كتاب قادرين على كتابة مسرحية لفرقة عربية موحدة ووضع نفسه في المقدمة. فهذا هذا يعني شحة مؤلفي المسرح، أم أنَّه وجد فيكم شيئاً آخر !؟
إنَّ الساحة العربية مليئة بعشرات الكتاب ونحن نقرأ في الشهر الواحد عشرات المسرحيات، والمكتبة العربية زاخرة بالمسرحيات والمجلات الأدبية والدوريات المتخصصة يندر أن يخلو عدد منها من مسرحية، ولكنَّ التجربة التوجيهية ـ اذا جاز التعبير ـ أي التوجه التأسيسي عند الأسماء المذكورة هو الذي حدا بالفريد فرج إلى الإشارة إليهم.
هناك آخرون دون شك: يعقوب شدراوي، عبد الواحد عوزري، محمد إدريس، سعد الله ونوس، ولكن الفريد فرج ينطلق من موضوعة التجريبية التأسيسية وهي الصفة التي تجمعني وعز الدين المدني ومحمد الماغوط. يربطنا الجوهر. نحن تجريبيون تأسيسيون، وأظن ليس هناك مجال في البحث عن الشحة أو الوفرة بقدر ما هناك عملية بحث عن المؤثر في التجريبية التأسيسية وهذا الرأي للأستاذ الفريد فرج آت من الاطلاع عن كثب على أعمال المدني والماغوط وأعمالي. وبهذه المناسبة فـأنا أعتقد أنَّ من العبث أن تتكون فرقة عربية موحدة وتعيد روتيناً مسرحياً (جيدا) ولكنَّه روتين!


فما جدوى تأسيس أو تكوين أو لم فرقة عربية، لا تقدم شيئاً تجريبياً تأسيسياً ؟
ماذا أضافت مسرحية (واقدساه)؟ في موضوع التحرر والقضية الفلسطينية هناك أعمال مثلت في السبعينيات، وكانت الأروع في المجال الفني والمجال الفكري .
إنَّ رأي الفريد فرج ينطلق من هنا: من التجربيبة التأسيسية.
هل ولد المسرح العربي أم لايزال في رحم المسرحيين ؟
ـ إنَّه يتكون.
في طور الجنين؟
ـ من الصعب تحديد عمره لكنَّ الرائع في هذا التكون هو أنَّ المفكرين في عملية التكون كثيرون على امتداد الوطن العربي من مغربه إلى مشرقه.
هناك مسرح عربي مميز، عموماً تجد تراجعات في بلدٍ وتطورات في بلدٍ آخر. فلو أخذنا البحرين وتونس أو العراق والإمارات نجد أنَّ المسرح في تونس متطور جداً مقارنةً بالمسرح في البحرين وكذلك الحال في المقارنة بين العراق والإمارات. ولكن بجمع شتات العمل المسرحي في مجمل البلدان العربية نجد أنَّ الفنانين العاملين الجادين (لا أقصد بالجادين العبوسين)!
يدأبون كل يوم، بل كل ساعة نحو التكون والولادة . مايهمني هو العمل المسرحي . قد يكون المسرح قد ولد أو سوف يولد ولكن هذا ليس أمراً مهماً إنَّما المهم هو عملية التراكم النوعي.

قدمت مسرحية (رسالة الطير) قبل سنوات، والآن تقدمها فما الجديد في الأمر؟
ـ الجديد في هذه المسرحية هو مواصلة التمرين منذ أربع سنوات عبر أربعة عروض، يتواصل التمرين ولا أريد لهذا التمرين أن يصل الى العرض. هو خلاصة، والخلاصة تعني أحياناً الموت أو الوقوف أو الحد .
إنَّ مايثيرني فيها هو أنني أواصل التمرين في الجزئيات أو العمل.
وحتى الآن لم يتحقق كل ما في الذهن من رؤى وحلول ومعالجات لأنَّني أعاني كثيراً من توفير متطلبات هذا العمل المسرحي الرائد الذي من الممكن ربطه بكلمة الفريد فرج لأنه يصلح لفرقة عربية تجرب لتؤسس مسرحاً.

شاهدناك ممثلاً لشخصية (مروان) في مسلسل (عنفوان الأشياء)، ولكنك كنت غامضاً تعامل معك المشاهدون بحذر مشوب بالقلق، أيحبونك أم يكرهونك. وإنّي أسالك : هل كان هذا الغموض في شخصية مروان ضمن متطلبات دورك، أم أنت الذي أسبغته على الشخصية باجتهاد منك؟
ـ أنا ضد مفهوم الشخصية الواضحة أحادية الجانب في العمل الفني:خيّر أو شرير، أسود أو أبيض …الخ فإلى جانب الكره، هناك الحب، وإلى جانب الخير هناك الشر.
الإنسان هو طيب وشرير، ظالم ومظلوم، رابح وخسران، وهذا أكثر تواصلاً مع المشاهد لأنَّ المشاهد يعيش هذا الازدواج، ويندر أن يوجد في العالم إنسان لا يعيش ازدواجاً .
تجد الإنسان يتكلم ضد النفاق، ولكن في ساعات ينافق. قد يكون السبب تركيز الخير، ولكن هذا لاينفي الازدواج. يقول ناظم حكمت: أحياناً أكذب لكي أحفظ ماء وجه إنسانٍ ما!
إذن لم تعد المطلقات تصلح .
نسبية الأشياء هي المطلق الوحيد.
لقد أدركت أنَّ شخصية مروان يجب أن تكون بهذه الصورة لكي تحقق وجودها الدرامية فهو واضح ولكنه بالنتيجة غامض وبالتالي هو مفهوم، ولكنه في كثير من مواقفه كان صادقاً.
مادمنا بصدد الحديث عن التمثيل أود أن أعرف: أين يجد قاسم محمد حريته في الإخراج، أم في التأليف أم في التمثيل؟
ـ أجد حريتي في التمثيل.
الأسماء التالية ماهو وقعها على المسرح العربي: المنصف السويسي، الطيب الصديقي، دريد لحام ، فؤاد الشطي، عبد الحسين عبد الرضا، سعدي يونس؟
ـ هذه أسماء مؤثرة، منتجة مجتهدة، بنسب متفاوتة تتكلم عن دريد لحام غير ما تتكلم عن عبد الحسين عبد الرضا وإن كانا مختلفين، كذلك الحال بين فؤاد الشطي، والمنصف السويسي فتوجههما مختلف، ولكن عمل كل منهما ـ بدون شك ـ مؤثر ونظيف، وإنْ كانت هناك بعض التراجعات عند السويسي بحكم حركته الشخصية وحركة المسرح في تونس، أي أنَّه لا يتراجع وحده إنَّما هناك مؤثرات.
في الكويت تجد عبد الحسين عبد الرضا يتراجع لأنَّه يكرر الأسلوب، والأداء، والشكل، والمضمون عكس دريد لحام الذي يكرر وصولاً إلى مسرحيته الجيدة (شقائق النعمان)، ثمَّ لا تنس أنَّ دريد لحام مع نهاد قلعي هو غير دريد لحام مع محمد الماغوط.
دريد لحام يجرب مع الماغوط العقل المفكر.
على أية حال فهذا هو جدل جميل في الحركة المسرحية.

ماهو سبب الإسفاف في المسرح؟
ـ هناك أسباب للإسفاف لا تنفصل عن مسبباتها فالأسباب لا تأتي وحدها . هناك حركة رأسمال في المجتمع العربي ، ورأسمال المال يبحث عن منافذ ليمد أخطبوطه إلى المعدة والقلب والكبد فهو معني ومهتم بحاجات الإنسان المادية والروحية ولكنه يرسبها له، ويبتز جيب المشاهد وعقله، ويبتز الفنان نفسه، والنتيجة أنَّ هذا المسرح هو فخ منصوب للفنان والمشاهد ولا يعتقد الفنان أنَّه بمنأى عن الابتزاز.
إنَّه مبتز لأنَّه عبارة عن سلعة يروج لنفسه كما يروج لأي حاجة أخرى من حاجات الإنسان ابتداءً من أعلى الرأس إلى أسفل القدم.
فما الفرق في التلفزيون بين إعلان عن مطعم، وإعلان عن مسرحية؟
إنَّ المسرح الجاد لا يعلن عن نفسه بهذه الطريقة، هذا أولاً ثانياً : تجد في هذا المسرح كل هش من الفنانين، ولا تجد فناناً متماسكاً، واجرد الأسماء!
حتى أولئك المحسوبين على المسرح تكشف لنا أنهم يعانون من الهشاشة وإلا لتمسكوا بمبادئهم الشخصية على الأقل.
وبالتالي فإنَّي ألقي اللوم على الفنانين، إنَّهم يتخلون عن الفن وينحازون إلى التجارة فلماذا لايحققون المعادلة الصعبة (اربحْ ولكن قدّم فناً ممتعاً وعميقاً).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى