الحلول والوحدة في رواية: ” الصامت” لشفيق التلولي

رائد محمد الحواري | فلسطين

عندما يجمع النص الروائي ما بين الأسطورة/ الحكاية وبين الرواية، فهذا أمر يحسب للكاتب وللرواية، التي مزجت ما بين ما هو شعبي/ تراثي، وبين ما هو حداثي/عصري، عندما تأتي الأسماء لتخدم فكرة الرواية فهذا يضيف ميزة أخرى للرواية، وبما أنها تتحدث عن فكرة التوحد/ الحلول الصوفية من خلال “الصامت، سلامة، المنسي” ومن ثم تربطه بالمخطوطة، وبالشجرة، ثم تجعله أحد أبطال المقاومة، فهذا يجعل الرواية تجمع بين الحكاية (الشعبية) وبين حقائق حدثت على الأرض.

فهناك تشابك بين المخطوطة وبين الشجرة، وبينهما وبين “أمين” السارد، وبينه وبين أجداده “الصامت وسلامة والمنسى”، بحيث نجد حلولا ما بين الصامت والمنسى، وبما أن هناك أكثر من مقام للصامت، فإذا جعل فكره/ كرامته تنتشر وتتوزع على أكثر من مكان، ومن ثم أصبح يمثل (أسطورة) شعبية يتداولها الناس.

السارد وكتابة الرواية

بما أن الرواية تتحدث عن فكرتين/حالتين، الحكاية والرواية، الماضي والحاضر، فقد استخدم السارد مدخلا أدبيًا يقنع المتلقي به، ففي بداية الرواية يكسر وتيرة السرد من خلال قوله: “لا أدري لماذا تطل علي، ترميني بشروط حكايتها القديمة كلما اجتاحني طيف الكتابة، … تأخذني إلى عوالم أخرى لا أدري كيف أسافر معها وأغوص في مداراتها؟، فأنصرف عن استئناف مشروع روايتي وأهيم مع ذاك المنسي الذي بات يزورني في يقظتي وأحلامي” ص ص22، في هذا المقطع يلخص السارد ما جاء في السابق عن عملية التوحد/التشابك/التداخل بين شخصيات الرواية وبين الماضي والحاضر، وهذا (الصراع) بين الحكاية/الماضي وبين الرواية/الحاضر الذي استمر حتى نهاية الرواية، ولم يتم حسم الأمر فيه، وكأن السارد لم يرد أن ينهي فكرة التداخل/التشابك/التداخل في الرواية، وهذا يشير إلى أن فكرة الحلول/التوحد، فكرة مفصلية وأساسية في الرواية.

لكن هذا الحلول/التوحد لم يأتِ بسهولة، بل بدأ وكأنه حالة مخاض/صراع/ألم قاسي يعانيه السارد: “أمسكت بقلمي، كلي إصرار على استئناف روايتي التي قطعت على نفسي عهدا أن أكملها، …ما إن لامس حبر قلمي رأس الصفحة حتى أطلت جدتي توشوشني: “ألا أكملت لك حكاية جدك الصامت؟” …وضعت قلمي جانبا، طويت أوراقي، غلبني النعاس، ألقيت برأسي على مكتبي واضعا يداي تحت جبهتي، إذا بفتاة تهزني وتمس في أذني: “جئت لك من بلاد بعيدة أحمل في جعبتي كنوزا ثمينة جلبتها من صندوق العجب بعد أن وجدته على شاطئ بحر عتيق” ص24و25، نلاحظ أن هناك تداخلا بين كتابة الرواية والحكاية، الماضي والحاضر، بين الصامت والسارد، بين حكاية الجدة والفتاة التي خرجت له، بين الحلم والخيال، وهذه الإثارة ما جعلت المتلقي يبقى متعلقا ومتابعا لأحداث الرواية.

يتقدم السارد خطوة مقربا بين الخيال الواقع، بين الحكاية وبين والرواية، من خلال “دالية الكرمي” الباحثة التي راسلته: “..أنا معك أيها الكاتب، أقرأ ما تكتبه بتمعن، لكني لا أخفيك سرا أني مصابة بالذهول فكأنك تروي لي أسطورة من أساطير الأولين، كيف بالله عليك أن أمضي لمقام جدك الصامت وأخاطبه، فيكلمني بعد أن مات منذ مئات السنين” ص34و35، وكأن السارد من خلال ما تقوله الباحثة يريد الإجابة على تساؤلات القارئ، الذي يرى/يلمس أن هناك (عدم منطق) فيما يطرحه من أحداث ويقدمه من شخصيات، فحالة الحلول/التوحد لا يمكن أن يقتنع بها القارئ من أول مرة، فكان لا بد من إثارة الأسئلة والتساؤلات على لسان شخصيات جديدة في الرواية، فكانت “دالية الكرمي” تتحدث بالنيابة عن القارئ: “ـ أراك سرحت حضرة الكاتب، وأراني أهيم في عالمك المتخيل، أنا لا قدرة لي أمام فهم رؤيتك للعالم وقدرتك على توظيف الخيال لصالح الواقع” ص60، بهذا الشكل استطاع السارد أن يضع تساؤلات القارئ ضمن بنية السرد الروائي، وفي الوقت ذاته يقربه من الفكرة الحلول/التوحد التي يطرحها.

الصامت والمنسي

قبل الدخول إلى طبيعة الشخصيات الرئيسية ” الصامت، سلامة، المنسي” نتوقف قليلا عند معانيها، فنجد في الأول الهادئ/الحكمة، وفي الثاني المسالمة، والثالث المظلومية، وهذا يخدم فكرة واقع الشخصيات التي أراد السارد الحديث عنها، فهي تتماثل مع واقع الفلسطيني وحالة الهدوء/السلام/الظلم الذي وقع عليه.

وإذا أخذنا اسم السارد “أمين” الذي أوصل لنا ما جرى من أحداث وعرفنا على هذه الشخصيات، يكون قد أوصل الأمانة وأوفى عهده لأجداده، “الصامت، سلامة/ المنسي”، وهذا ما يجعل الاسماء تخدم فكرة الرواية، خاصة إذا عرفنا أن اسم الباحثة “دالية الكرمي” ودورها المكمل لدور “أمين” نتأكد أن معاني الاسماء لها دلالة في خدمة فكرة الرواية، وأرادها السارد لتكون داعمة لمضمون الحلول والتماهي الرواية.

فمعنى الصمت/”الصامت” يخدم فكرة المسالم/”سلامة”، وأيضا “الصمت/الصامت هو مقدمة وتمهيد للنسيان/”المنسي”، وبما أن هناك شخص أوصل لنا وعرفنا عليها فهو “أمين”.

“الصامت” عنوان الرواية والشخصية المركزية فيها، لكن بعد متابعة الأحداث والشخصيات نجد أن هناك شخصا آخر أخذ مكانه في الأهمية هو “المنسي” الذي تحدثت عنه الرواية أكثر بكثير مما تحدثت عن “الصامت” لكن السارد يفاجئنا في نهاية الرواية بفكرة المزج/الجمع بينهما، لكن بداية التوحد بين الصامت والمنسي لم تأت مرة واحدة، بل من خلال مجموعة أحداث/مشاهد، منها:

“..حتى سمع همسا:

ـ منذ ذلك الحين سيكون المنسي خليفتي من ذريتي، سيكون صاحب خطوة، ستجدونه في كل مكان، لن يكون بمقدار أحد أن يغلبه بسهولة، لا تجعلوه يغضب فتحط اللعنة” ص81، هذا ما تحدث به “الصامت” لابنه “سلامة”، أو ما تخيله سلامة، وكما جاء الصامت لسلامة جاء للمنسي، وبعين الطريقة، التخاطر/التخيل: “..استيقظ على همس الصامت، سمع خطاه بينما يغادر منامه، لم يتمكن من فهم ما ألمح إليه، غير أنه التقط بعض كلمات تذكرها بعدما استيقظ مرتجفا، كانت آخر ما نطق بها:

ـ لا تترك هذا المكان أو تبتعد، إن حدث وتركته، فلتعد وحتى تعود قلها ومت، قلها لتعد.

انطلق المنسي عائدا إلى بيته في جعبته وصية الصامت، قبل أن يحط بفرسه في حاكورة الدار، عرج إلى المسجد يصلي العصر خلف أبيه الشيخ سلامة ويقص عليه عساه يفسر له ما رأى فقال له:

ـ لا تقصص رؤياك على أحد إلا بعدما يعود الصامت من كبوته أو يبعث رسولا، فالرؤيا عند الظهيرة سر، وكشف السر فأل غير محمود، لا يحق إلا بعدما يعود المرئي للرائي” ص93، نلاحظ أن هناك حلول/تداخل بين شخصيات الابن والأب والجد، حتى إننا نجدهم يتشاركون فيما بينهم، وهذا يخدم فكرة الحلول والتواصل بين سلالة “الصامت”، فقول: “لا تقصص رؤياك على أحد” لا ندري من قاله، هل هو الصامت أم ابنه سلامة!، وهذا ما يؤكد على فكرة الحلول/التوحد بين شخصيات الرواية.

الرواية تمزج الشخصيات، وتجعلها تتشارك في تكملة من أنجز من أفعال وأعمال، فهناك تكامل بين ما قام به “الصامت” وبين ما سيفعله “المنسي: “في بلاد لا تبعد كثيرا عن هذه الأرض، يخرج من ذريتي منسي من بئر يُشرد الذين كانوا يردوا نبعها، لا يلتفتون إليها، يغور ماؤها، يجف حلق المنسي وهو ينادي:

أنا المحكي والحاكي، أنا هناك، حتى يبح صوته” ص106، هذه النبوءة التي كتبها “الصامت” في المخطوطة، متعلقة به وبالمنسي ومتعلقة ب”أمين” السارد الذي ينقلها لنا، وإذا ما توقفنا عند هذا المشهد، نجد أن (حكاية الصامت) تتغلب على الرواية، فهي من يسيطر على الأحداث، حتى أن “أمين” السارد تخلى عن كتابة الرواية وأخذ ينقل ما هو متعلقة “بالصامت”، وكأن الماضي/الصوفي حل على الحاضر وسيطر عليه، بحيث لم نعد نرى/نلمس/نقرأ أحداثا متعلقة بالسارد “أمين”، فقد اندمج/توحد مع أجداده “الصامت، سلامة، المنسي”، ونجد هذا الأثر يتجاوز (التخيل) ليمسي حقيقة يعيشها “أمين”، فبعد أن يصل إلى مقام جده الصامت، يصاب حالة من العجز بحيث لا يقدر على التقدم خطوة واحدة في المقام: “… لم أعد قادرا على الحركة والمشي نحو المقام، غير أني اشرت إليها بالدخول إلى المرقد بمفردها بعد أن عجزت قدماي عن التقدم والمسير وصولا إليه، ما أن مضت وغادرتني، حتى همس في أذني هاتف: “عد خطاك إلى الخلف، لا تعد إلي قبل أن يستريح المنسي الذي ساح في الأرض صامتا …أرح المنسي ثم عد” ص160و161، فهنا لم يعد هناك راو يريد أن يكتب روايته، بل هناك شخص غارق في الأحداث التي حوله، بحيث لم يعد يقدر على الحركة، ولا على التفكير بغير “الصامت والمنسي” والهاتف الذي سمعه من جده الصامت يؤكد على أنه أصبح يخضع بشكل كلي للصامت والمنسي ولما يوجد في المخطوطة.

المخطوطة والشجرة

هناك وحدة/حلول بين الصامت وبين المخطوطة التي كتبها، فهي تمثل تاريخ أجداد “أمين” السارد، وهي بمثابة الرسالة/الوصية لما يريده الصامت: “..لا تفرط في هذه المخطوطة ، لما لها من أهمية، إنها أمانة أجدادي ووصية الصامت وخريطة الطريق لذريتنا ونسلنا من بعدنا” ص53، هذا فيما يتعلق بالمحطوطة، لكن هناك شجرة الجميز التي تم وضع المخطوطة فيها، حتى أنهما ـ الشجرة والمخطوطة ـ أصبحا يمثلان جسما واحدا: “…أن يحافظ على المخطوطة وأن يحرص على دوام الاعتناء بشجرة الجميز، وأن يحفظ المخطوطة في جذعها السميك” ص75، من هنا عندما يتم إخراجها من الشجرة، يعمل المنسي المستحيل لإعادتها للشجرة.

أحداث الرواية

رغم أن الرواية تتحدث كثيرا عن المخطوطة والشجرة والمنسي والصامت، إلا أن هناك أحداثا واقعية تتناولها، وكلها تتحدث عن فلسطين وما مرت به من اضطهاد وظلم على يد كل من حكمها، من الأتراك: “..بمساعدة المقاتلين الذين ملأوا فلسطين في تلك الأثناء بعد أن علموا باسره وهبوا جميعا لتخليصه منهم، ظل مختبئا في مغارات جبال فلسطين حتى تسلل إلى دمشق وانضم للمقاتلين السوريين الذي خاضوا معارك ضارية مع الأتراك بسبب الظلم والطغيان الذي مورس عليهم كما مورس على فلسطين” ص76و77، مرورا بالإنجليز: “حاصرت القوات البريطانية القدس، وطالبت المنسي بالخروج إليها وتسليم نفسه فرفض هو ورفاقه المقدسيون وأهل الخليل ونابلس وكذلك المسيحيون وقرروا الدفاع عن المدينة المقدسة والتصدي للقوات المحاصرة” ص111، وكذلك الحركة الصهيونية وما فعلته من تدمير وتخريب وقتل في فلسطين: “..معبر “إيرز” المقام على أراضي بلدة “دمرة” الفلسطينية المحتلة” ص122، كما أنها تناولت ثورة القسام ودوره في تأسيس العمل الفدائي الفلسطيني: “…فلم يكن يتمكن أحد من الالتحاق بها إلا العضو الذي يقتني السلاح على حسابه الخاص، وأن يتبرع للعصبة بما يستطيع وكذلك يجب أن يبادر بالضربات الخاطفة للإنجليز وقوافل الهجرة اليهودية القادمة لفلسطين” ص136، من هنا يمكننا القول أن السارد استطاع أن يضمن الرواية أحداثا حقيقة، بحيث مزج بين المتخيل/المخطوطة/الصامت وبين أحداث وشخصيات حقيقية، وهذا ما جعل القارئ يصل إلى فكرة الظلم/القهر الذي تعرض له الفلسطيني، وعلى استمراره في التمسك بحقه/بتاريخه/بماضيه، فتأثر “أمين” بالمخطوطة وما جاء فيها يمثل استمراره في نهج المنسي الذي ما زال يتداول قصته الناس، الذين جعلوه أسطورة تحيى في كل العصور والأزمنة.

الرواية من منشورات دار الشروق، عمان، الأردن، الطبعة الأولى 2021.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى