حين يتبخّر حلم الشباب..في أفق الثورة التونسية
محمد المحسن | تونس
بعد مرور عشر سنوات ونيف على ثورة الكرامة
“علمني وطني أنّ حروف التاريخ مزوّرة.. حين تكون بدون دماء..”( مظفر النواب)
..دماء غزيرة أريقت من أجساد شبابية غضة في سبيل أن تتحرّر تونس من عقال الإستبداد الذي إكتوت بلهيبه عبر عقدين ونيف من الزمن الجائر..
و من هنا،لا أحد بإمكانه أن -يزايد-على مهر الحرية الذي دفعت البراعم الشبابية أرواحها ثمنا له،ولا أحد كذلك يستطيع الجزم بأنّ ما تحقّق في تونس من إنجاز تاريخي عظيم تمثّل في سقوط نظام مستبد جائر، إنما هو من إنجازه..لا أحد إطلاقا.. فكلنا تابعنا المشاهد الجنائزية التي كانت تنقلها الفضائيات في خضم المد الثوري الذي أطاح -كما أسلفت-برأس النظام مضرجا بالعار،ومنح الشعب التونسي تذكرة العبور إلى ربيع الحرية..
تلك المشاهد الجنائزية كان ينضح من شقوقها نسيم الشباب..شباب وضع حدا لهزائمنا المتعاقبة،قطع مع كل أشكال الغبن والإستبداد،خلخل حسابات المنطق جسّد هزّة عنيفة مخلخلة للوعي المخَدّر والمستَلب،وصنع بالتالي بدمائه الطاهرة إشراقات ثورية قدر الطغاة فيها هو الهزيمة والإندحار..
هؤلاء الشباب عزفوا نشيد الحرية فتمايلت أغصان المجد طربا..هؤلاء الشباب هم من قالوا للطاغية: إرحل..قالوها بملء الفم والعقل والقلب والدّم..لم ينل منهم الخوف ولا أثناهم عن عبور درب الألم،الرصاص المنفلت من العقال..لقد رسموا بمواقفهم الشجاعة دربا مضيئا يعرف آفاقه جيدا عظماء التاريخ وكل الذين سلكوا درب الحرية من الأبطال والشهداء منذ فجر الإنسانية: صدام حسين، سبارتكوس، عماربن ياسر، عمرالمختار، يوسف العظمة،شهدي عطية، الأيندي،غيفارا وديمتروف.. وقد تجلّت في شجاعتهم كما في رفضهم الصارخ لكل أشكال الإستبداد،بطولة الإستشهاد وتجسّدت في نضالاتهم آسمى معاني الفعل الإنساني النبيل..
كان محمد البوعزيزي أوّلهم حين إرتدى لحافا ملتهبا بحجم الجحيم وخرّ صريعا كي تكتحل الأرض بدمائه ويتبرعم الربيع في بساتين الحرية..ثم إرتقى الآخرون بقرارهم إلى منصة الإستشهاد بجسارة من لا يهاب الموت في سبيل التحرّر والإنعتاق..
وبالأمس..
غنت تونس نشيد الحرية فتناغمت القاهرة مع لحنها العذب، ورقص الشباب في كل من طرابلس..ودمشق..والمنامة.. وصنعاء..رقصة”زوربا اليوناني”..تلك الرقصة التي تعانق برمزيتها سماوات المجد والخلود..
ولكن..
لئن كانت الثورة التونسية قطرة أفاضت غضب شعوب في وجوه عدد من حكام العرب آنذاك، ضمن ما بات يعرف بـ“الربيع العربي“، وجسرا نحو نيل الحريّات،فقد كان اعتقاد التونسيين حينها أنه لا يفصلهم سوى وقت قصير عن تحقيق كل آمالهم،إلاّ أنّ مساحة الحلم تقلصت سنة بعد سنة،وذهبت أحلام الشباب بغد أفضل زبدا وطواحين ريح..
وإذن؟
للأسف الشديد،فإن الشباب سرعان ما فقد زمام المبادرة،وتراجع بسرعة رهيبة مقابل بروز السياسيّين وتصدّرهم للمشهد السياسي والإعلامي،فأصبحت الثورة بالنسبة للشباب مجرّد ذكرى يستحضرها بكل ألم مقارنا ما بين ما كان ينشده من القيام بها وما آلت إليه الأمور. وانحدرت الثورة بذلك وللأسف إلى المربّع الإيديولوجي وبدأت الإنقسامات تظه،وهي انقسامات لا تنتمي أبدا إلى أفق الثورة التونسية وإنما هي انقسامات على أسس إيديولوجيّة أتى بها السياسيون من “رفوفهم القديمة” وأرادوا فرضها فرضا على واقع الثورة التونسية، فوجد شباب الثورة نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما الاندراج كرها في سياق “الصّراع الإيديولوجي”،وإما الوقوف على الربوة ومراقبة ما يحدث.وفي كلا الحالتين تفقد الثورة التونسية طرافتها وفرادتها لتندرج في نسق قديم يؤدي إلى نتائج قديمة لا تجلب الخير المنشود.
وحتّى الدّستور الجديد لم يكن في مستوى توقّعات طموح الشباب التونسي إذ تمّ تخصيص فصل “شعاراتيّ” للشباب مفرغ من كل محتوى قانوني، وهو الفصل 8 الذي ينصّ في فقرته الأولى على أن “الشباب قوّة فاعلة في بناء المجتمع” في حين نصّت فقرته الثانية على أنه “تحرص الدولة على توفير الظروف الكفيلة بتنمية قدرات الشباب وتفعيل طاقاته وتعمل على تحمله المسؤولية وعلى توسيع إسهامه في التنمية الاجتماعية والإقتصادية والثقافية والسياسية”. وهو ما يندرج أيضا في سياق الشعارات و”الخطابة” القانونية أكثر من إندراجه في سياق النصوص القانونية الملزمة.
في هذه السياقات المتسمة بالهشاشة الاقتصادية والسياسية،وتنامي مشاعر السخط الاجتماعي على النخب السياسية،حكماً ومعارضة،صاغ الشباب صوراً وتمثلات جدّ سلبية عن الطبقة السياسية،فالساسة بالنسبة إليهم فاسدون،لا يعيرون للمصلحة الجماعية أيّ اهتمام، لذا يغفلون، عن قصد أو جهل، القضايا الحقيقية للبلاد، ومنها قضية التنمية العادلة،وتشغيل الشباب،فضلاً عن جودة الخدمات التي تليق ببلدٍ أنجز ثورة.
واليوم..
يحيا الشباب اليوم، عشرات تجارب الإذلال اليومي، في ظلّ شحّ الموارد المالية للعائلة. يدفعهم الفقر إلى وضعياتٍ عسيرة واختبارات قاسية، ما عمّق عجزهم عن تقرير مصائرهم وحسم خياراتهم،وذلك ما يجعلهم عرضةً لمختلف عمليات السمسرة والابتزاز: أحزاب سياسية تنظر للزبونية، جماعات إرهابية،شبكات المخدرات والأشكال المذلة من تشغيل هش،يتقنه رأسمال مالي يتعيش من التهريب والفساد.
لا يثق الشباب،أكثر من أيّ وقت مضى،في الساسة والمدرسة والوطن والحبّ والعائلة،حتى وقعوا فريسة لهذا القلق الوجودي المدمّر، فهم عاجزون عن تقديم أيّ إسقاطات على المستقبل،أو صياغة برامج يسعون إلى تحقيقها أو يخطّطون لإدراكها، والكلّ يعلم أنّ هذه التواريخ والأهداف المستقبلية تشكل للشباب محطاتٍ زمنيةً مقبلة، يفترض أن تشدّهم إلى الحياة والوطن.
في خضم هذا الواقع المرير وحتى لا يستفحل الإحباط في النفوس، بات لزاما على شبابنا تهيئة أرضيّة فكريّة تمكّنه من تحديد آليات تحقيق أهداف ثورته،فالطموح المتجدّد ضروري لبناء المستقبل.كما أن الإصرار على استعادة الحلم ضروريّ أيضا ولو طالت المدّة.
كما يجب على الشباب أيضا إمتلاك ناصية العلم،باعتباره القاطرة الوحيدة نحو التقدّم والإزدهار،إضافة إلى ممارسة التّعبيرات الثقافية المختلفة بوصفها أدوات فكرية وثقافية تسمح بتكوين رؤية للذات والآخر،وتسهّل التعامل مع الفضاء “المعولم”.
ختاما أقول: على الرغم من حالة التردي والتمزق والفرقة فلا يمكن نفض اليد مطلقاً.لا تزال جذوة ثاوية وسط الرماد،هي ما يتعين النفخ فيها وإذكاؤها.وتتعين قراءة جديدة للخريطة الدولية،لأن العالم متداخل وهو في تطور دراماتيكي.
وهنا أختم: محكوم علينا بالتفاؤل كما كان المسرحي السوري سعد ونوس يقول، ففي اللوحة مناطق نور وبياض، علينا أن نوسّعها،حتى نحاصر العتمة تدريجياً،علّها تختفي.
والسياسي الجيد هو رسّام وصانع أحلام. هكذا ردّد مؤسّس السريالية، أندريه بروتون.
وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.