بعد هبّة أيار: إسرائيل تخطط لنا، وحالتنا تتخبط !!
أمير مخول | فلسطين
مشكلتنا ليست في القراءة السياسية، بل بالاساس كما ارى الامور في القطيعة ما بين القراءات السياسية والخطوات الجماعية، وفي القطيعة ما بين قراءة الوضع الاني والانتقال الى خطوات قائمة على قراءة المستقبل والتحديات التي يحملها، كما تنقصنا الادوات التي من شأنها ان تتيح ذلك.
لا أملك تصورا حول كل ما ينبغي عمله، ولا اعتقد ان مثل هذا التصور متوفر لدى أحد. لكن هناك خطوة اولية من شأنها ان تتيح ذلك، هي استحداث هيئة تخطيط سياسي، أي اطار يوازي مجلس الامن القومي الاسرائيلي او مراكز السياسات والابحاث في هذا الصدد.”
هناك احداث او تصريحات تمر مر الكرام امام ناظر الجماهير العربية الفلسطينية دونما اكتراث، وبالذات لانها تأتي ضمن بيانات اعلامية عابرة، ولا يتوقف عندها الاعلام الاسرائيلي. في حين لو توقفنا عندها لرأيناها ذات أبعاد شديدة الاثر وأحيانا مصيرية تجاه الحاضر والمستقبل. لقد توقفت هبّة ايار ببعدها الشعبي مع توقف العدوان العسكري الدموي على شعبنا، ألا ان مفهوم الهدنة او وقف اطلاق النار لا يعني توقف العدوان بمفهومه الاوسع، ولا يعني أن الدولة هدأت او توقفت مخططاتها. فالعدوان والقمع الخارجي والداخلي هما استمرار لسياسة الدولة وأداة من أدواتها الكثيرة، في حين يشكلان الحدث المفصلي بالنسبة للضحايا.
في الاحداث المفصلية هناك اهمية قصوى لقراءة سريعة للمستجدات ولتقييم حقيقي للوضع، وبناء عليه تخطيط الخطوات القادمة وتعديل استراتيجيات العمل بما يقتضيه. تقوم الدولة بذلك ليست لأنها أكثر ذكاء من جماهير شعبنا، بل لأنها تملك كل الادوات والاجهزة ومنظومة المؤسسات لمعاينة وتقييم ما تسميه الامن القومي، وهو أمن قومي عدواني. وفي هذه المؤسسات يجتمع كمّ كبيرمن خيرة الادمغة واصحاب وصاحبات الخبرات المتعددة المجالات، فالى جانب التخصصات الامنية يكون هناك تخصصات في علم النفس الاجتماعي والمجال القضائي والاقتصادي والمالي والدمغرافي والاعلامي وغيرها، لتشكل جميعها ادوات لمنظومة ضبط متكاملة، سواء للمدى القريب والذي ينعكس عادة في سياسة القمع والترهيب والردع الجماعي منه والانتقائي، وهذا الاخير هو الاكثر أثرا، وعلى المدى البعيد من خلال ما يمكن ان نطلق عليه الهندسة الاجتماعية وهندسة الوعي من خلال التأثير على بنيته. فالترهيب السياسي ليس اعتباطيا، بل عقلانيا وهناك خط منهجي يسير عليه، ولو نظرنا معمقا في طبيعة الاعتقالات منذ ايار وحتى اليوم فإن طابعها استخباراتي أكثر منه شرطويا بالمفهوم التقليدي. إن هذا الامر يعكس مسعى لمضاعفة أثر فعل الدولة، كما أنه في المقابل يعكس واقعا تهاب فيه الدولة سياسياً من مواجهة شاملة مع الجماهير العربية الفلسطينية تلتقي مع مواجهة الشعب الفلسطيني كله، وذلك نتيجة للضرر السياسي الذي يلحق بالمنظومة الحاكمة، وبمنظومة الضبط التي يشرف عليها جهاز الامن العام الشاباك ومجلس الامن القومي الاسرائيليين.
بعد أن خرجت جماهير شعبنا بشعور من الانتصار او وقفة العز، فإننا لم ننجز الخطوة التالية المطلوبة أي تقييم الوضع والاستعداد لكل السيناريوهات التي قد تسلكها الدولة. فلم نخط خطوات نحو المستقبل بل اكتفينا أحزاباً ومؤسسات في التفكير بالوضع الاني. حتى الحراكات الشعبية والشبابية، والتي أشغلت موقعا رياديا في التصدي للعدوان الدموي علي جماهير الشعب، نجدها قد بدأت تهمد وهناك تسارع في عملية تآكل ما راكمته بسرعة دونما تطوير أفق سياسي لدورها العظيم والمبدع. ولا نجد الاحزاب تقوم بتوفير الأفق السياسي الشعبي، بل انكفأت أكثر من قبل، في وقت يتطلب دورها المتجدد والمنفتح. هذه الوضعية قد تتحول الى أزمة بدلا من انطلاقة، وقد تكون اندثارا لما انجزته جماهير الشعب. هناك مقولة باتت مبتذلة وهي أن لا فراغ في السياسة، وحيث لا تكون انطلاقة سياسية مبنية على الهبة الشعبية، فيحدث التراجع للمدى البعيد، وهي الحالة لزيادة نفوذ الدولة متعدد الاشكال.
حدث مؤخرا أن تمّ الكشف عن أمرين يقعان ضمن ما كان يجري التعامل معه كأسرار دولة في السابق، الاول، هو التسريبات من قيادة الشرطة بأن الشاباك يمنع الشرطة عمليا من المس بأقطاب الجريمة المنظمة العرب. أما الثاني فهو، الاعلان عن النقاش الدائر بين الشرطة والجيش حول انجع الطرق لقمع العرب بناءً على هبة أيار الاخير، وبالذات في المدن الساحلية. في حين يضاف الى هذا التصريح المتكرر للمفتش العام للشرطة كوبي شبتاي بأن “سعة الاحداث في المدن المختلطة قد فاجأت الشرطة” كما ويضيف بأن سرعة وتيرة تفاعل الاحداث وانتشارها جغرافياً، كانت مربكة للشرطة. وهو يعزو ذلك الى قدرة التحكم الشعبي وبالذات الشبابي في وسائل التواصل الاجتماعي الفيسبوك واواتساب والتيك-توك. حيث نقلت الدولة من خلال وزير الامن وحدات “حرس الحدود” من الضفة الى الداخل لقمع العرب بحيث زاد عدد هذه الوحدات المدججة بأسلحتها ومنظوماتها عن الثلاثة الاف جندي. أما الخطوة التالية التي تشير لها الدولة فهي توفير بنية ذات جهوزية عالية للجيش للتدخل في قمع المظاهرات وفي القيام بالدور الذي لا تستطيع الشرطة القيام به. ففي مقدمة مركبات عقيدة الجيش الدفاع عن الدولة في وجه العدو، وفي هذا اشارة الى كيفية تعاطي الدولة مع مواطنيها الفلسطينيين. كما أن اقامة قوة تدخل عسكرية تعني بالاضافة لما ذكر اعلان حالة طواريء واستخدام واسع لانظمة الطواريء. ولو ترجمنا ايضا مفهوم تدخل الجيش في قمع المظاهرات، فهذا يعني ان القمع سيكون اكثر دموية. هذا الوضع ليس الاول من نوعه، فقد تم استخدام الجيش في سعي الدولة لقمع اضراب يوم الارض عام 1976 في قرى البطوف. بينما الحديث الان عن منظومة متكاملة في هذا الصدد. كما ان المستهدف اليوم من حيث الاولويات الاسرائيلية هم العرب في المدن الساحلية وذلك بسبب موقعهم ومكانة هذه المدن في الرؤية الصهيونية. فهذا الحضور القوي في نقطة التماس الاولى مع المجتمع الاسرائيلي تعتبرها الدولة مسألة أمن قومي.
إن النهج المركزي للدولة في التعامل مع فلسطينيي الداخل، على الاقل في العقد الاخير، هو تفكيك البنية السياسية لهذا المجتمع، ضمن مخططات الضبط والهيمنة وهندسة الولاءات، وهذا من شأنه ان يكون الاستراتيجية المفضلة لدى الدولة في ضمان ضعفنا، وفي فك الارتباط مع القضية الفلسطينية وأيضا في فك الترابط الداخلي كمجتمع والنيل من مؤسسات سياسية تمنحه الصفة الكيانية، وبالذات لجنة المتابعة كإطار جامع وتحييد دورها. كما لو طرحنا السؤال، هل بتنا كمجتمع اليوم أقوى بعد مواجهات أيار، لا اعتقد ان عملية مراكمة منهجية قد تمت في هذا الصدد، وهل هناك تحولات سياسية فعلية في الحالة الفلسطينية الواسعة ومساع لتوفير بنية استدامة العلاقة بين مركبات الشعب الفلسطيني؟ اعتقد انه لم تكن سوى اجتهادات اشارت الى هذه الفرصة لكن لم يجر استغلالها البتّة لا على مستوى الفصائل ولا الاحزاب والقوى الوطنية.
مشكلتنا ليست في القراءة السياسية، بل بالاساس كما ارى الامور في القطيعة ما بين القراءات السياسية والخطوات الجماعية، وفي القطيعة ما بين قراءة الوضع الاني والانتقال الى خطوات قائمة على قراءة المستقبل والتحديات التي يحملها، كما تنقصنا الادوات التي من شأنها ان تتيح ذلك.
لا أملك تصورا حول كل ما ينبغي عمله، ولا اعتقد ان مثل هذا التصور متوفر لدى أحد. لكن هناك خطوة اولية من شأنها ان تتيح ذلك، هي استحداث هيئة تخطيط سياسي، أي اطار يوازي مجلس الامن القومي الاسرائيلي او مراكز السياسات والابحاث في هذا الصدد. فلا يكفي اجتماع رؤساء الاحزاب لوضع السياسات لمجتمع، بل هناك ضرورة لاستحداث هيئة سياسات بعيدة المدى في اطار لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، تعتمد على الاجتهادات العديدة القائمة فعليا في المجتمع الفلسطيني سواء المؤطرة منها وغير المؤطرة، حتى ولو كانت هيئة ذات طابع استشاري، لكن بشرط ان تكون قائمة بنيويا وبشكل منتظم في اطار لجنة المتابعة، وعلى الاشراك الشعبي لما تتوصل اليه.
لقد خطت الدولة خطوات في اعقاب هبّة ايار، بينما نحن توقفنا جماعيا عند أيار، وللأسف!