بين الصّحوة و السّبات
جميل السلحوت | القدس
عندما يستمع المرء لبعض أتباع أحزاب الإسلام السّياسيّ، وهذا البعض كثير جدّا، ومع اعتزازهم بانتمائهم الحزبيّ بطريقة مبالغ فيها، بحيث أنّهم يكفّرون من لا يفهم الإسلام بطريقتهم، وكأنّهم هم الوحيدون المالكون للحقيقة الدينيّة والعالمون الفاهمون لشرع الله!
ومن هذه المنطلقات فإنّهم فخورون بما يسمّونه “الصّحوة الإسلاميّة” التي ظهرت بوادرها ونمت وترعرت منذ سبعينات القرن العشرين. ودليلهم في ذلك هو ازدياد عدد من يرتادون المساجد للصّلاة، وارتداء النّساء للحجاب وللنّقاب وللزّيّ الشّرعيّ. وتفسيرهم هذا لا يجدون له سببا علميّا، فمن المعروف أنّ الشّعوب في عصور الحروب والهزائم تعود لتراثها ومنه التّراث الدّينيّ في محاولة منها لإثبات هويّتها القوميّة والحضاريّة. فعلى سبيل المثال وفي زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر ومحاولة المستعمرين”فرنسة” الجزائريّين” عاد الجزائريّون إلى ارتداء لباس القبائل الأمازيغيّة في ردّ وتحدٍّ منهم للفرنسيّين.
جميل جدّا عودة الشّعوب إلى دينها، فالعرب والمسلمون سادوا العالم في عصر الدّولة الإسلاميّة. وقد نمت أحزاب الإسلام السّياسيّ في المنطقة العربيّة في مرحلة الهزائم التي عاشتها الأمّة خصوصا بعد الحرب الكونيّة الأولى. وسبقتها في ذلك الأحزاب القوميّة والماركسيّة، وبعضها وصل إلى الحكم، لكنّها فشلت فشلا ذريعا في قيادة الأمّة، وتسبّبت في الهزائم التي لا زالت أمّتنا تعاني من ويلاتها، وفي مقدّمتها ضياع فلسطين وقتل وتشريد شعبها. وهذا شكّل دافعا للأحزاب الدّينيّة لتطرح نفسها كبديل يرفع شعارات التّحرير وبناء الإقتصاد والتّعليم. فهل نجحت في ذلك؟
في زمن الحرب الباردة بين المعسكرين الرّأسمالي والإشتراكي الذي تبلور بعد الحرب العالميّة الثّانية، مع أنّه بدأ فعلا بعد انتصار الثّورة البلشفيّة في روسيا عام 1917، شنّت الدّول الغربيّة حربها على الإتّحاد السّوفييتي، وموّلت المعارضة لقلب نظام الحكم الجديد، واستمرّت تلك الحرب حتّى العام 1926 وحصدت أرواح تسعة ملايين سوفييتي. وبعد الحرب الكونيّة الثّانية استقطب العالم الرّأسمالي جماعة “الإسلام السّياسيّ” الذين طربوا لوصفهم المسلمين “بالسّور الواقي من خطر الشّيوعيّة”. وجنّدهم لمحاربة المعسكر الإشتراكي.
وعندما قامت الثّورة المصريّة عام 1952، ناصبها الإسلام السّياسيّ العداء، ولا زالوا يشتمون زعيم الأمّة جمال عبد النّاصر حتّى يومنا هذا، ويتنكّرون لإنجازاته، ومنها مساعدة حركات التّحرّر في العالم العربيّ ودول العالم الثّالث، وتوزيع أراضي الإقطاعيين على فقراء الفلاحين، وبناء السّد العالي، ومجّانيّة التّعليم في مختلف مراحله وغيرها، حتّى وصل الأمر بالشّيخ الشّعراويّ أن “يصلي ركعتي شكر لله تعالى على هزيمة الجيوش العربيّة في حرب العام 1967”! وعندما استلم وزارة الأوقاف في عهد السّادات عند زيارته لإسرائيل عام 1977 اعتذر عن ذلك! فهل كانت هزيمة العام 1967 نصرا للإسلام والمسلمين؟ وهل الملايين التي تئن من ويلات الاحتلال مسلمة أم كافرة؟ وهل الأراضي التي احتلت أراض إسلاميّة أم لا؟
وبعد انهيار هذا المعسكر في بداية تسعينات القرن العشرين، بدأت حملة العالم الرّأسمالي حربها على العدوّ المحتمل وهو الإسلام والمسلمين. فهل اعتبرت أحزاب الإسلام السّياسي ممّا حصل ويحصل؟ وهل أعادت حساباتها واتّعظت من أخطائها وأخطاء غيرها؟
الصّحوة الإسلاميّة؟
هل شكّلت أحزاب الإسلام السّياسيّ بديلا للأحزاب القوميّة واليساريّة التي فشلت وجلبت الويلات للأمّة؟
وللإجابة على هذا السّؤال دعونا نعود إلى نصف القرن الماضية الذي عايشتها أنا وأبناء جيلي. فبعد هزيمة عام 1967 مباشرة ظهرت تنظيمات وأحزاب قوميّة ويساريّة لمقاومة الاحتلال، لكن لم يظهر أيّ تنظيم إسلاميّ، وبعد أكثر من عشرين عاما على الاحتلال، وعند بداية الأنتفاضة الفلسطينيّة الأولى في أواخر العام 1987 ظهرت حركة حماس كذراع مقاوم لجماعة الإخوان المسلمين، وطرحت نفسها منذ البداية كبديل لمنظمة التّحرير وفصائلها.
وتأسّس تنظيم القاعدة في الفترة بين أغسطس 1988 وأواخر 1989 لمحاربة السّوفييت في أفغانستان، بتمويل وتسليح خليجي وأمريكي، ثم انقلب السّحر على السّاحر فعادوا يفجّرون ويقتلون في الدّول التي دعمتهم وموّلتهم، بما في ذلك تفجير برجي التّجارة العالمية في نيويورك في سبتمبر 2001. واستمرّوا في أعمال ارهابيّة حتّى مقتل زعيمهم أسامة بن لادن في الأول من مايو 2011.
وما بين 1992-2002 التي يسمّيها الجزائريّون “العشريّة السّوداء” شنّت جماعات الإسلام السّياسيّ حربها على الجزائر وشعبها، فقتلت أكثر من 400 ألف جزائريّ عدا عن مئات آلاف الجرحى، وعدا عن تدمير العديد من مؤسّسات الدّولة والمؤّسّسات الاقتصاديّة.
وفي العام 1998 استولى عمر حسن البشير على الحكم في السّودان بدعم من حركة الإخوان المسلمين، وما لبث أن انقلب عليهم في العام 2011 وزجّ بهم في السّجون. وجرت تنحيته بانقلاب عسكريّ في ابريل 2018. بعد أن تنازل عن جنوب السّودان في يوليو 2011 وانفصلت عن السّودان، عدا عن الحروب الأهلية في اقليم دارفور وغيره.
وعلى السّاحة الفلسطينيّة عارضت حركة حماس اتّفاقات أوسلو، لكنّها ما لبثت في العام 2006 أن دخلت الإنتخابات التّشريعيّة بناء على تلك الإتّفاقات، وفازت بالأغلبيّة السّاحقة، وشكّل السّيّد اسماعيل هنيّة حكومة السّلطة، وبعد عام انقلبت حماس وفصلت قطاع غزّة عن الضّفة الغربيّة بحجّة عدم السّماح لحكومتها بالسّيطرة على الأجهزة الأمنيّة، وهنا بدأ الصّراع على سلطة تحت الاحتلال ولا تملك من السّلطة إلا اسمها.
وعند احتلال العراق عام 2003 تحالفت الأحزاب الدّينيّة الشّيعيّة مع المحتلين، واستلمت الحكم بعد هدم الدّولة العراقيّة، ووضعت دستورا طائفيّا لا يزال العراق الوطن والشّعب يعاني منه حتّى الآن.
وفي مرحلة ما يسمّى الربيع العربي فاز في 24 يونيو 2012 محمد مرسي العياط عضو مجلس الارشاد للإخوان المسلمين برئاسة مصر في انتخابات ديموقراطيّة، لكنّه جرى انقلاب العسكريّين عليه في يوليو 2013، وأودع السّجن إلى أن توفاه الله في 24 يونيو 2019. لتبدأ جماعة الإخوان المسلمين بعمليّات تفجير في مصر.
ليبيا وسوريا والعراق
وفي الحرب الأهليّة التي شنّها حلف الأطلسي على سوريا، وجنّد لها جماعات الإسلام السّياسيّ بتمويل خليجيّ وتركيّ وأمريكيّ وإسرائيليّ ظهرت لنا جماعات دينيّة ارهابيّة جديدة من رحم أحزاب “الإسلام السّياسيّ”؛ ومنها داعش وجبهة النّصرة وغيرها، وأعلنت “الجهاد” في سوريا والعراق وليبيا وصحراء سيناء، وقتلت ودمّرت وشّردت باسم الدّين، مستغلّة العواطف الدّينيّة للشّباب المسلم الذي ينقصه الوعي بأمور دينه ودنياه؛ ليكون وقودا في حرب لا مصلحة للأمّة فيها، وجلّ ما تسعى إليه هو تطبيق المشروع الأمريكيّ “الشّرق الأوسط الجديد” لإعادة تقسيم المنطقة العربيّة إلى دويلات طائفيّة متناحرة، وتصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسّعي.
ويلاحظ أنّ أيّا من “المتأسلمين الجدد” لم يعلن الحرب على “أعداء الأمّة الحقيقيّين”، لكنّهم أعلنوها حربا ضروسا وشاركوا فيها على شعوبهم العربيّة المسلمة في هذه البلدان. فهل نحن في صحوة حقيقيّة أم في ضلال مبين؟ فهل ننتبه أنّ من قُتلوا من شعوبنا “بالقتل الحلال” منّا أكثر ممّن قتلهم الأعداء؟