موفق محمد يلتفت للوراء ويلتقط ما يريده
ناجح المعموري | رئيس الإتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين
الكتابة عن منجز الباحث أحمد الناجي (هذا هو موفق محمد) ضرورة ذات خصائص عديدة، وهذه الحاجة قادتني للاطلاع على علاقة الحلة بالتاريخ عن طريق الموقف الهيغلي، ورؤيته الخاصة جداً عن التاريخ وما يتضمنه من مكونات الوقائع والأحداث والتفاصيل الصغيرة والكبيرة بوصفها سرديات حفظت العلاقات وكيفية تبلورها. والذي لفت نظري لأهمية الأصول المبكرة الأولى حيوية نضج العتبات المهمة والجوهرية في تجربة الشاعر، وهذا ما تلمسته في كتاب أحمد الناجي الذي أنجزه وبروز الخلايا البدئية وذات التجوهرات المضيئة. وجدت بأن العودة لإعادة قراءة التاريخ والحلة أكثر عتبة مهمة لأنها أضاءت خلايا عن التاريخ والتحولات الحاصلة في حياة هذه المدينة. وكل ملاحظة كشاف لا يمكن التنكر له، بل الاستعانة به وتوظيفه بما يوفره هذا الكشاف من مساعدات للصعود مع هذه التجربة الثقافية الذكية التي أجد أهمية بالغة لتكريسها بوصفها نوعاً اجتما-ثقافياً، وتسليط الضوء على الحياة بتنوعاتها، والأستاذ أحمد الناجي عارف ممتاز بالآليات المغذية لمشروعه وتجربته المهمة والتي تضع الحياة السيرية مندمجة في كل ما سجلته سرديات التاريخ حتى اللحظة التي اكتمل فيها الجهد الثقافي. بمعنى حقق نجاحاً لوضع الاسم الثقافي/ موفق محمد موجوداً في التاريخ وخزاناته، حتى قبل ولادته.. بمعنى كل التاريخ له حضور وسيستمر الى الأبد ولا يمكن للباحث أن يتنكر لذلك، لأن البراكمات فاعل ينهض بقوته الكينونة وتنامي التواريخ والأزمنة. وأنا واثق بأن نجاح الأستاذ الباحث الأكاديمي باعتماده تواريخ ثقافية، اجتماعية، وسياسية وتغذيتها بكل التحولات التي هي خلايا تعيش وتتكرس وتبرز بشكل من الأشكال في حياة المثقف المبدع، لأن التاريخ كله عن طريق خلاياه السردية كامن ولا يقبل الاختفاء والركون للإلغاء والمحو، فاليقظة تتعطل كثيراً من السنوات، لكنها تنتفض بسبب طاقة التاريخ التي لا تطرد فرداً من الجماعات التي ساهمت بوقائعه، هو أو ورثته.. لأن الوحدات الصغيرة والكبيرة، الحاضرة كمرويات ومدونات غير قابلة لقبول الصمت، بل لسانها ضاج بالاستعادة وإن تم تجاهل بعض الوقائع فأن الروح الخفية للسرديات لها فعل مؤثر. وهذا ما ألمح له الباحث أحمد الناجي عندما قال: “ من البداهة أن تتعدى الفائدة المرجوة من دراسة ماضي الإنسان الى ما هو أبعد من مديات العبر والدروس والخبرات، حتى لا يبقى الإنسان تائها في ثنايا التاريخ، فلابد له أن يروم من ذلك الجهد وتلك المثابرة، الوصول الى حيث يكون حقل الاشتغال بتدبر شؤونه سواء فيما هو متعلق بحاضره أو ما له صلة بمستقبله”. (أحمد الناجي/ التاريخ والحلة في رحاب الفلسفة الهيغيلية/ ص7)
العناية السيرية ذات التاريخ الممتد والعميق تغتني كلما تراكمت السنوات وحتى بعد غياب الاسم الثقافي، لأن الحيوية التي يتمتع به الاسم الذي استحق البحث والدراسة يزداد التماعه ولا يهدأ صوت حضوره حتى بعد غيابه، لأن الانشغال به إضافات ذات حيوية وطاقة، لأنه تحوز مع ما له صلة بالمثقف ما يؤديه الفرد والجماعة وما تبرز جارفة بحركة الحياة والمجتمع من أحلام وهموم ومفاعيل، تعود كثيراً نحو المتاعب والتحديات.. لذا أنا أعتقد بأن ما يبرز بتأثيرات التجربة الشعرية الفذة للشاعر موفق محمد هو إمتداد حي ويقظ، يزاول تحفيزاته وكأنه يؤدي وظيفته الاجتماعية والسياسية ويدخل ضمن خزان الذاكرة وسرديات الأفراد والجماعات في تدوين تفاصيل التاريخ التي لعب الفرد والجماعة دوراً بارزاً في التصعيد وإحياء ما هو ايجابي، بحيث تحول هذه الرمز –موفق محمد- طاقة تحفيزية غير قادر الزمن على تعطيل حيويتها.. من هذا تعكس لنا مرايا الحياة كل ما قام به الكائن وهذا يفضي لتقديم الكشوف الجوهرية التي تنبه الى ملزمات ملحة كي يكون الإنسان فاعلاً حتى بعد غيابه، لأن المنجزات العظيمة لن تتعطل، فهي باقية، حاضرة بإنتاج ما يأتي من تواريخ وأيضاً تتمظهر ناشطة، متحركة بتأثير ما مضى من مئات من السنوات. وكلنا يستذكر ويستعيد ذاكرة بابل وخزان الحلة موظفة بالمنجز الشعري للشاعر الكبير موفق محمد. كل هذا يساهم بإعادة كتابة الماضي الذي هو حاضر من دون ضجيج وكلاهما يكونان الآتي من الأيام.. وهكذا تستمر الأنا/ والنحن في ترسيمات الهوية أو الهويات، ولا أخفي بأني استفدت من آراء هيغل المضادة للحلة الجديدة لأن الحضارة البابلية مدونة بتفاصيلها من خلال المرويات والتدوينات وحتماً لها تأثير أكثر وضوحاً عما يتشكل من تطورات حضارية جديدة، لأن التاريخ لا يعيش معتمداً على القطيعة كما قال ميشيل فوكو.
ان دور الهوية وتفاعلاتها وانفتاحها للتغذية يمكن في المتراكم هو الذي يجعل الفرد والجماعة مدركة لضرورات القبول بحياة مندمجة بما هو موجود من الماضي وأيضاً الجديد.
تبرز ملاحظتي حول مخاوف هيغل من بابل القديمة على الحلة الجديد، ولا يريد أن يرى أهلها يرتدون ملابس قديمة؟ هذا رأي متطرف للغاية!! لأن الشعوب الحية لا تتنكر لماضيها، ليس تقديساً بل توظيفاً ابداعياً خلاقاً. وفي قراءة كتاب الأستاذ أحمد الناجي (المجتمع الحلي مطلع القرن العشرين) لا تغيب الذاكرة البابلية بحيويتها، وأكدت الدراسات على أن ما أنتجه البابلي القديم من وسائل البناء أكثر توفراً على عوامل البقاء والاستمرار وضمان البقاء لفترة تاريخية طويلة جداً. وأن تعددات الملامح البدئية لمدينة الحلة، أخذت من قيم ثقافية/ وعلمية وعوامل متطورة ولم تبدأ من فراغ. لأن التاريخ باق وموجود ولا يفك العلاقة مع ما هو قادم. وكلما تشابكت وحدات التاريخ في المدن الجديدة، تظهر أكثر نضجاً وتلاحماً، من هنا حصلت طفرات بيئية في الحلة الجديدة، في الكتاتيب والمدارس والبناء والعمران، الزراعة، التجارة .. الخ ومثل هذا التداخل نوع من التلاحم والتشابك ولا نستطيع التنكر لما لم نعرفه أو يعشه الشاعر موفق محمد في تجربته الشعرية.. وهو أكثر الشعراء تكراراً لماضي مدينته، وهو -أيضاً- الأكثر قدرة وابداعاً في توظيف رمزيات بابلية وحلّية قديمة وعزز بها الهوية المكانية واحتفى عليها شعرية متسامية وعالية جداً.
إن محاولتي الكتابة عن منجز الباحث أحمد الناجي (هذا هو موفق محمد) يستدعي الالتفات لتواريخ سابقة، وهذا ما استلهمه الشاعر وتميز كثيراً بذلك وكأنه يريد التأكيد على الحيوية الكامنة في الذاكرة وخزانها. وهذا الرأي الذي سجلته أنا لم يبرز لدى شخص غيري من الذين كتبوا عن الكتاب والسبب موضوعي هو أنني أحتفظ بذاكرة عميقة ولها تاريخ طويل عن العلاقة مع شاعر مهم وحيوي مثل موفق، كما توفرت لي فرصة مهمة للغاية لإنجاز كتاب نقدي (قبعة موفق محمد) مازالت مرجعاً مهماً على الرغم من وجود عديد من الرسائل الجامعية عن الشاعر.
ما أريد أن أختتم به هذه المقالة الاستهلالية لمقال آت هو أني أدركت تأثيرات الماضي الخلاق على تفاصيل تجربة موفق محمد وكذلك ما اعرفه من مكونات سياسية/ ثقافية/ واجتماعية. وما ذهب اليه الأستاذ أحمد الناجي مثير للاطلاع والاعجاب، لأنه حفظ خزان حلّي لن يضيع، لأن الجماعات حافظة له ويتبادلان معاً الذاكرة والصحو والحنين للماضي المتجوهر.