لغة الترميز والإيحاء والتكثيف لدى الروائي والقاص التونسي المحسن بن هنية (قصة السفير نموذجا)
محمد المحسن | ناقد تونسي
من نافلة القول إن كل عمل أدبي مؤثر وليد طاقة خلاّقة تدرك بقدراتها الاستثنائية ضرورة أن يكون لكل نص أدبي بُعْدَان: خارجي ميسور التناول، وداخلي غائرٌ في أعماق النص لا يدركه سوى قلة من القراء، وهذا الشيء الغائر في النص هو الرمز الذي يتوسله المبدع وسيلة فنية عميقة تكشف عن طاقة المبدع واقتداره على تجاوز المعنى الظاهر للنص الإبداعي، شعراً كان أم قصة أم مسرحية.
وهذا الترميز لا يأتي -كما قد يظن البعض- خوفاً من سلطة الرقابة المهيمنة على مسار الإبداع في كل مكان من العالم، وعالمنا الثالث بخاصة، وإنما يأتي استجابة لدواعٍ فنية ولما يبعثه من إيحاء ويثيره من متعة وتأمل.
يحدد أدونيس الرمز في الشعر فيقول: “الرمز هو ما ينتج لنا أن نتأمل شيئاً آخر وراء النص، فالرمز هو قبل كل شيء معنى خفي وإيحاء؛ إنه اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، والقصيدة التي تتكون في وعيك بعد قراءة القصيدة؛إنه البرق الذي يبيح للوعي أن يستشف عالماً لا حدود له. لذلك هو إضاءة للوجود المعتم، واندفاع صوت الجوهر”.
وإذا كان ذلك هو الرمز في الشعر، كما حدده أدونيس، فإن الرمز في القصة، كما يمكن لنا أن نقول، هو القصة الأخرى التي تبدأ بعد أن تنتهي القصة، وتبدأ مرحلة التأمل والاستغراق في قراءة الدلالات.
وإذا كان على المبدع أن يحفر عميقاً في داخله بحثاً عن نص أدبي يشغله ويؤرقه، فإن القارئ المتمرس مطالب بأن يحفر عميقاً في داخل هذا النص المنجز، النص القائم على مرتكزين اثنين: الظاهر والباطن، إذا جاز التعبير.والظاهر في حالة فن السرد هو ما يقدمه القاص من حكاية تدور حول الدلالة المباشرة لحادثة ما أو شخصيات ما.وعلى العكس من ذلك، الباطن، الذي يفتح النص لما هو أعمق وأغنى في الدلالة غير المباشرة، وهو بمكوناته الأسلوبية يستحضر المعنى البعيد، المعنى الموازي والمتخيل.
وما من شك في أن الروائي القاص التونسي المحسن بن هنية قد صنع لنفسه موقفاً خاصاً في مجال القصة التونسية القصيرة، بخاصة، سواء في اختيار موضوعاته الساخنة، أم في لغته القريبة من القلب، أم في تعامله الواعي والذكي مع الرموز.
إن نظرة متأنية إلى مجموعاته القصصية والروائية التي اطلعت على العديد منها، تشي بانعكاس الدلالات الرمزية في معظم قصص هذه المجموعات، إن لم يكن فيها كلها، وبدرجات متفاوتة، ابتداءً من الإيماء إلى الرمز البسيط إلى المعادل الموضوعي، وفق رؤية فنية يستطيع المتلقي القبض عليها بسهولة، وبعيداً عن الإبهام والتعتيم.
ويستطيع الدارس أن يلاحظ أن فكرة الترميز ابتدأت عند المحسن بن هنية منذ بواكيره القصصية الأولى، وحرصه على إنتاج نص سردي يحتمل العديد من القراءات ويفتح أبوابه لاستقبال كل القراء على اختلاف إمكاناتهم الثقافية، لاسيما أولئك الذين يجدّون ويجاهدون في البحث عن تلك الأبعاد الرمزية بكل ما تثيره من محفزات فنية وفكرية..
(أحوال) مجموعة قصص قصيرة للروائي والقاص المحسن بن هنية :
بدءاً لاتوجد قصة بدون منظور اذ يتم التقاط زاوية السرد ، والمنظور عبارة عن العين التي يتم من خلالها سرد الحدث ولا يرتبط بالضرورة بالراوي ،فقد يقوم بسرد الحدث من منظور شخصية اخرى اذا كان السرد بضمير الغائب، فالراوي الذي يقوم بالسرد بضمير المتكلم يتميز عن شخصيته التي يقوم بسرد ما يجري لها،فقد يقوم بسرد حدث مرَّ به عندما كان صغيرا،او ينتمي لمدة زمنية سابقة على زمن السرد،وهنا لا بد ان نميز بين منظور الشخصية بوصفها فاعلة في الحدث عندما كانت جزءاً منه،ومنظور الراوي بوصفه راويا يقوم بسرد متأخر لحدث حدث من قبل وكان جزءاً منه بوصفه شخصية .
في قصة-السفير-(سنتولى مقاربتها لاحقا) تتجلى لنا بوضوح مقومات القصة القصيرة حيث إعتمد المحسن بن هنية التكثيف والترميز والذي هو الإقتصاد في الكلمات والإكتفاء بالقليل منها وخالية من الزوائد والحشو الوصفي والاستطرادات والإنثيالات الواعية وغير الواعية وايضا الإيحاء،وهو التكثيف الناجح إلى لغة مشعة بالإيحاءآت والدلالات وجعل القارىء يعرف ما تتحدث عنه القصة،يضاف الى ذلك المفارقة التي هي عبارة عن جريان حدث بصورة عفوية على حساب حدث آخر هو المقصود في النهاية ،وكذلك الخاتمة التي تعد الغاية والهدف في القصة القصيرة لانها تختلف عن اساليب الخاتمة في الرواية مثلا كونها ليست وليدة السرد او من مفرزاته ،بل انها نص متحفز الى الإدهاش والإستفزاز .
في هذه-القصة القصيرة-(السفير)كان القاص المحسن بن هنية منتبهاً بصورة جيدة لمسألة في غاية الأهمية،أنه لم يترك القارىء منتظرا المزيد لانه ركز على خط قصصي مهم تمثّل في التقاط الكلمات التي توصل الى الموقف ورصده الماهر للأحداث والحالات المختلفة التي استطاع ببراعة تجسيدها في هذه اللوحة القصصية الفاخرة ذات البعد الفني والجمالي..
على سبيل الخاتمة:
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أني وجدت ما يثير الدهشة والانبهار في مجمل إبداعات الروائي والقاص التونسي المحسن بن هنية، وقد لا يحيد القول عن جادة الصواب ثانية إذا قلت أنّ-أسلوب بن هنية-،يمتاز بالقدرة على النفاذ إلى داخل نفس المتلقي،لكونه يمتلك لغة جميلة وحبكة مؤثرة يستقبلها القارئ بترحاب وإعجاب ومحبة،فهو يكتب بلغة صافية بعيدة عن كل ضبابية أو ارتباك، فضلاً عن كونه قاصاً واقعياً في أكثر نصوصه، لكنك لا تعدم أن تجد رموزاً معينة في بعض القصص.
وفي كلتا الحالتين فإنه يتيح للمتلقي متعة الانسجام مع أحداث قصصه وحركة الشخصيات وعوالمها الظاهرة والخفية..
ختاما يمكن القول أنّ القراءة العميقة،القراءة الاستنباطية،هي التي تكشف المعنى الخفي بأبعاده الغائرة في النص ودلالاته الرمزية؛ فالإبداع الحقيقي في كل زمان ومكان هو التعبير الصادق عن الوجدان الجمعي لا الوجدان الفردي.
والرمز هو الذي يضمن له تلك الإمكانية المتجددة،وهو ما يجعل القصة،كما القصيدة، صالحة لكل زمان ومكان.
التعبير المباشر،مهما كان نصيبه من جمالية اللغة وطراوة الأسلوب،يظل محكوماً بوقته وراهنيته ثم يتلاشى.وعلى العكس من ذلك التعبير غير المباشر، التعبير الرامز، الذي يأخذ مداه الطويل في الزمن والتاريخ.وما من شك في أن- الروائي والقاص التونسي المحسن بن هنية- قد حقق قفزة نوعية في مجال الإبداع بمختلف تجلياته الخلاّقة..
ولنا عودة إلى – قصة السفير – عبر قراءة مستفيضة.
°السفير إحدى نصوص المجموعة القصصية ” أحوال”