مطارحات فكرية بين يدي قضية الولاية؛ معناها وأهميتها (1)
إبراهيم محمد الهمداني| اليمن
مأساة كربلاء… ما بين غدير خم والسقيفة
مما لاشك فيه أن مأساة كربلاء لم تكن وليدة اللحظة، أو أنها بكل بساطة خروج واحد من الرعية المحكومين على السلطان الحاكم، والانقلاب عليه، طمعاً في الاستيلاء على كرسي الملك والحكم عنوة وغلبة، كما يحاول التاريخ السياسي الإيهام بذلك، كما أن مأساة كربلاء لم تكن نتيجة لخذلان أهل الكوفة للإمام الحسين(ع)، وبالتالي لم يكن الحسين(ع) ذلك الغرُّ الجاهل، الذي وقع صريعاً ضحية لخيانة قومٍ نكثوا ببيعته، وأخلفوا ما وعدوه به، لأن الحسين (ع) لم يكن ذلك المغفل، الذي لا يمتلك رؤية ولا بصيرة ولا حكمة ولا خبرة في تقدير الأمور والتنبؤ بعواقبها وما يترتب عليها من نتائج، هذا من جانب، ومن جانب آخر، يمكن القول إن الدافع الحقيقي لخروج الإمام الحسين عليه السلام، لم يكن بناء على طلب أولئك الذين راسلوه وبايعوه، حسب ما تم ترويجه وتسويقه، إلا بمقدار ما رد الحجة عليهم، وأقامها فيهم في المقام الأول، كما أقامها في باقي الأمة في المقام الثاني، لأنه إنما خرج طلبا للإصلاح في أمة جده رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم، بعدما أصابها الانحراف، وما وصلت إليه تداعياته ومخاطره، ولهذا كان خذلان الحسين (ع) وعدم الاستجابة لدعوته ونصرته، معصية جمعية، وإثما مشتركا، يتجاوز حدود الزمان والمكان، وإن كان الذين بايعوه ثم خذلوه، يحملون الوزر الأكبر، بما نكثوا من العهود والأيمان، وقد جعلوا الله عليهم شهيدا، ورغم ذلك لا يجوز تحميلهم كامل المسئولية وحدهم دون باقي الأمة، يضاف إلى ذلك أن خروج الإمام الحسين (ع) – وما نتج عنه – قد كان أمرا محسوما سلفا، وقد أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم، في أكثر من موقف، وتم توثيقه في أكثر من مناسبة، لأن ذلك الخروج كان مهمة إلهية، لتحذير الأمة من مغبة التغاضي عن الانحراف، الذي أصابها وسيصيبها بين وقت وآخر، في صميم تدينها، الذي هو حقيقة وجودها، ومعنى تحققها، وأن السكوت عن ذلك معصية جمعية كبيرة، في كل زمان ومكان.
إن من الإجحاف والظلم، حصر قضية الحسين (ع)، في زاوية الثأر السياسي وطلب السلطة، أو في زاوية النيل من شخصية الإمام الحسين نفسه، أو في زاوية غدر أهل الكوفة، وتحميلهم كامل الوزر والمسئولية، وبالتالي تبرأة يزيد ونظام حكمه، بما من شأنه تغييب الحقيقة التي خرج من أجلها الحسين عليه السلام، والتقليل من شأن ذلك الخروج، ثم إفقاده أهميته ومعناه مع مرور الزمن، وذلك هو ما حاول بنو أمية وأشياعهم ومؤرخوا البلاط وفقهاؤه فعله، وسعوا إليه جاهدين، عند تناولهم لهذا الحدث.
إذن.. ما هي حقيقة خروج الإمام الحسين (ع)؟ وما هي حقيقة ذلك الانحراف الذي ابتليت به الأمة؟ وكيف تجرأ يزيد على قتل الحسين (ع) بدين جده رسول الله؟!، هل انحرف الحسين حقا عن الاسلام، ليقوِّمه يزيد بسيفه، وأين كان المسلمون آنذاك مما يحدث ؟!!!!
تكمن حقيقة خروج الإمام الحسين (ع)، فيما أورده هو عن خروجه، قائلاً:- “والله ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا فاسدا ولا مفسدا، وإنما خرجت طلبا للإصلاح في أمة جدي رسول الله” ، وهذا يعني أن هناك خللا ما قد أصاب الأمة في دينها وأخلاقها وتصورها، الأمر الذي يوجب على المسلمين جميعا، أن ينهضوا من واقع المسئولية الدينية، إلى جانب الإمام الحسين لتحقيق الإصلاح المنشود، وإعادة الأمة إلى رشدها وإلى جادة الصواب، ولكن ما هو ذلك الخلل الذي خرج الإمام الحسين لإصلاحه، وبذل روحه ثمنا لإنقاذ الأمة من مخاطره؟!!!!
إن قراءة خروج الإمام الحسين في سياقيه الزمني والموضوعي، تكشف جزءا من ذلك الخلل والفساد، الذي أصاب الأمة، حيث ارتبط خروجه (ع) زمنيا، بولاية يزيد بن معاوية حكم المسلمين، وما أعقب ذلك من طلب البيعة قسرا، وإرغاما رغم كون يزيد، كما يقول الإمام الحسين عليه السلام:- “إن يزيد فاسق فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله” .
نعم… مثلك يا أبا عبدالله لا يبايع مثل هذا الفاسق الفاجر، وهذا أمر حتمي وقطعي، لأن في أداء البيعة لمثل هذا الرجل، إعلان الانسلاخ عن الدين الاسلامي جملة وتفصيلا، وتناقض واضح مع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم، وما ضحى من أجله وصيُّهُ أمير المؤمنين علي عليه السلام، ولذلك فإن البيعة ليزيد لا تعدو كونها انقلابا صريحا على دين الله، وشريعته التي أرسل بها نبيه، وخيانة لدماء الشهداء في كل المواطن، وخيانة لله ورسوله والمؤمنين، ومثل تلك البيعة لا يمكن أن تصدر عن الإمام الحسين عليه السلام، وهو من هو في مقامه.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو:- من الذي أوصل يزيد – وهو من هو – إلى تولي رقاب المسلمين قسرا؟! وكيف قبل المسلمون ذلك، على دينهم وأنفسهم، ليلي أمرهم ويحكم رقابهم فاسق فاجر، شارب للخمر، مجاهر بالمعاصي؟؟ هل طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، ونسوا ما ذكروا به، وقد رسم لهم النبي الأكرم صلى الله عليه وعلى اله وسلم، أبهى نماذج الحكم، وأنجحها وأرقاها على الإطلاق؟؟ ألم يبايعوا عليا (ع) في غدير خم، بإمرة المؤمنين، بعدما بلَّغ النبي أمر ربه إليهم، قائلا:- “من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث دار” ، ما الذي جعل الأمة تنصرف عن ولاية المؤمن الطاهر الزكي، وتقبل بولاية الفاسق الفاجر؟!!
يمكن القول إن ولاية يزيد بن معاوية هي إحدى نتائج وعواقب ذلك الانحراف، الذي سكتت عنه الأمة، وتغاضت عن أولياته وبداياته، حين توهمتها أخطاء بسيطة، ولن تؤدي إلى مثل ما نتج عنها من المصائب والكوارث، وليس هناك ما هو أخطر على الإنسان من ذنب استصغره، وربما لم يدرك المسلمون – حينها – عواقب التفريط ومخالفة الأوامر الإلهية الصريحة، ومنها قضية الولاية، التي ارتسمت لها فلسفة خاصة عندهم، مخالفة تماما لمعناها وحقيقتها في إطار التكليف الإلهي، يضاف إلى ذلك عدم إدراك أو تجاهل المسلمين لحقيقة مقام النبوة، ومرجعية الدور الذي يقوم به النبي الأكرم صلى الله عليه وعلى اله وسلم، في سياق التبليغ، وأنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، لذلك بُنيت فلسفة الخلافة لديهم على مفاهيم الجاه والمنصب والغلبة، رافضين فلسفة الجعل الإلهي، الذي تضمنته نصا آية الولاية، وآية التبليغ، وطبيعة التفسير التمثيلي المشهدي، الذي قدمه النبي صلوات ربي وسلامه عليه وعلى اله، عند نزول آية التبليغ، حين أخذ بيد علي (ع)، وقال:- “من كنت مولاه فهذا علي مولاه….. ” ، معلنا لما يقارب مائة وعشرين ألف مسلم، حجوا معه من جميع الأقطار، أن عليا هو مولاهم من بعده، وأنه يفوضه خلافته، ويمنحه جميع صلاحياته وسلطاته، بأمر الله تعالى، وليس تعاطفا أو مجاملة لابن أخيه، وحاشا ذلك يصدر عن من لا ينطق عن الهوى، ولا يتفوه إلا بما هو وحي يوحى إليه من رب العالمين .
رغم ظهور بوادر الاعتراض – حينها – على ولاية أمير المؤمنين، سواء تلك التي صاغت اعتراضها على شكل تساؤل، ظاهره البراءة، وباطنه الرفض والتشكيك في موقف النبي ذاته، حيث قال قائلهم مخاطبا النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم:- “أهو أمرك أم أمر الله؟!
وهو تساؤل لا يجوز في مقام من عرفوا – سلفا – أنه ما ينطق عن الهوى، ورغم تأكيد النبي لهم بأنه أمر الله لا شك في ذلك ولا ريب، إلا أنهم سرعان ما خالفوه، شاهدين على أنفسهم، متأولين مخالفتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم، جاء رحمة للعالمين، ولم يأتِ من أجل أسرته فقط، وأنه ترك هذا الأمر شورى بين المسلمين، ولا يوجد نص قطعي يثبت ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يكن موقفهم وتحايلهم ورفضهم المغلف بالخوف على الإسلام والمسلمين – كما زعموا – بأقل خطرا ومعصية من موقف ذلك الرجل الذي أعلن رفضه صراحة – بعدما عجز عن المواربة – لذلك الأمر الإلهي، متحديا جبار السماوات والأرض قائلا:- اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم” ، مجاهرا بمكنون صدره من الغل والحقد والحسد والكبر، مستنزلا أشد أنواع العذاب، دون أن يرضخ لأمر الله، ويبايع أمير المؤمنين عليه السلام، وذلك إنما يصدر عن جهل أو تجاهل بمقام النبوة، حيث هي تكليف إلهي، يقتضي هداية البشر، وتبصيرهم بما فيه صلاحهم، وأنها ليست منصبا دنيويا، أو سلطة لاستعباد الناس، أو مُلكا يستأثر بأموال الناس، ويفرض طاعته عليهم، كما أن الجهل أو التجاهل أو الإنكار لعصمة النبي مطلقا، قد كان سببا آخر من أسباب الوقوع في شرك المخالفة، وإيلاء ولاية أمر المسلمين إلى غير أهلها .
مثَّل أولئك المخالفون البدايات الأولى للانحراف الكبير، الذي أصاب الإسلام والمسلمين، وعلاوة على جرمهم العظيم، وتحملهم وزر كل دم أُريق وحق اغتصب وشعيرة عُطلت، منذ ذلك اليوم إلى اليوم، فإنهم يتحملون أيضا أوزارا إلى أوزارهم، جناها من اقتدى بهم، واتبع نهجهم معتقدا أحقية وصوابية موقفهم، وصحة دعواهم وتأولاتهم، وعصمتهم المطلقة، وعدم جواز صدور المخالفة منهم، وهم أصحاب رسول الله .
تجدر الإشارة إلى أن أولئك المخالفين، قد اتسعت بمخالفتهم زاوية الانحراف الديني والقيمي والأخلاقي، شيئا فشيئا، مرورا بمظاهره في عصرهم، واتساع نطاق حضوره في عهد معاوية وبعده يزيد، وصولا إلى عصرنا الحاضر، حيث نتج عن ذلك سيادة المفاهيم المحرفة دينيا وقيميا وأخلاقيا، بديلا عن المفاهيم الدينية الحقيقية الصحيحة، ومن ذلك على سبيل المثال، أنهم حين أنكروا حق الله في اختيار وليه، القائم بأمر عباده بعد نبيه، المنصوص عليه في قوله:- “إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا…… ” ، بخصوصية صفته التي لم يشاركه فيها أحد مطلقا، جعلوا ذلك الحق قائما في العبيد دون المعبود الخالق، بحجة أنه أسنده إليهم، بقوله:- “وأمرهم شورى بينهم” ، ولنا مع مفهوم الشورى لديهم وقفة، فحين رفضوا الاحتجاج بأفضلية الإمام علي عليه السلام، لإثبات صلاحيته للحكم بعد النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم، سارعوا إلى الاحتجاج بأفضلية أبي بكر وصحبته – في خطبة السقيفة – لترغيب الناس في مبايعته، وحين عللوا عدم قبولهم لانحصار الولاية في العترة الطاهرة – التي لن تفترق عن القرآن إلى يوم القيامة – بأن رسول الله إنما بُعث للناس كافة، وليس لبني هاشم أو أسرته فقط، ثم حصروا أمر الولاية في قريش دون سواهم، محتجين على الأنصار وغيرهم، بحديث زعم أحدهم أنه سمعه عن رسول الله ، وهو يقول:- “لا يزال هذا الأمر في قريش ما نازعهم فيه رجل إلا أكبَّه الله في النار على وجهه” ، وفي ذلك تناقض واضح، فما أنكروه على آل البيت من الاختصاص، قد خصوا به قريشا دون أدنى حرج، وما زعموه من الشورى وحق المسلمين جميعا في الحكم، قد أصبح ملكية خاصة لقريش، وحقا إلهيا خاصا ببني أمية، بينما لا يعدو دور غيرهم من المسلمين موقع التابع المبايع مطلقا، وإن حصل منه أدنى اعتراض، أُبيح دمه وماله وعرضه، ووجب قتله، لخروجه على طاعة ولي الأمر، وبذلك أوهموا الأنصار ومن بعدهم جميع المسلمين، بصوابية حجتهم، وصحة مذهبهم، وقوة دليلهم وتأولهم، ليشرعنوا بذلك أكبر عملية انحراف في التاريخ، وألزموا المسلمين الطاعة والاتباع المطلق، والتسليم بنظرية الحق الإلهي في الحكم لقريش وبني أمية، ومن سار على نهجهم، وأن إقصاء بقية المسلمين عن مركز القرار السياسي، أمر مستند إلى مرجعية دينية، وليس نابع من أهواء وأطماع شخصية، ورغم ما تدل عليه عبارة “لا يزال هذا الأمر في قريش…” ، التي احتجوا بها، من دخول بني هاشم ضمن نطاق المخصوص بالأمر، المتعين له – قبيلة قريش – إلا أن الإقصاء والتهميش والإلغاء، قد طالهم أكثر من غيرهم .
انعكست مظاهر ذلك الانحراف السياسي، على مختلف جوانب الحياة، ولعل أكثرها خطرا وأعمقها أثرا، الانحراف الاخلاقي والقيمي والفكري، الذي تجلى في طروحات الموروث الثقافي، الذي وثق تلك العصور، وما تمخضت عنه من مستويات حياتية كاملة، ومن ذلك الكثير مما نقلته كتب التاريخ من مظاهر المفارقات المخزية، التي تنم عن تناقضات حادة، واختلاف المواقف تبعا لاختلاف موقع المصلحة، حتى أن قتل أحد قادة ما يسمى حروب الردة، لقبيلة يمنية بأكملها، والدخول بزوجة زعيمها ليلة مقتله، دون منحها زمن العدِّة الشرعية، قد أصبح بابا من أبواب التأويل والاجتهاد، الذي لا يُحرم صاحبه الأجر، وإن أخطأ في اجتهاده، كما أن بيعة أبي بكر، التي كانت شرعية محضة، قد أصبحت فلتة وقى الله المسلمين شرها، ومن عاد لمثلها فاقتلوه، حسب قول الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، الذي استمد مشروعيته السلطوية من – تلك البيعة الفلتة – وتعيين أبي بكر له، وليس من اختيار المسلمين، ومبدأ الشورى، الذي زعموه أساسا للحكم، ولكنه لم يتجاوز كونه شعارا للدعاية السياسية، ولم يدخل حيز التطبيق مطلقا، وحتى نظام الشورى الذي ابتكره عمر، فلم يختلف كثيرا عن ديمقراطية وانتخابات الأنظمة السياسية الحالية – انتخابات المرشح الفائز سلفا – حيث جعلها في ستة من الصحابة – زعم أن رسول الله مات وهو عنهم راضٍ – أربعة منهم يمثلون امتداد السلطة الحاكمة، واثنان منهم يمثلون الطرف الآخر، ومن الطبيعي أن تحسم لصالح الطرف الأكثر عددا، وقد سجل بنو هاشم في هذه الشورى – لأول مرة – حضورا ديمقراطيا صوريا شكليا، فارغا من أي تأثير أو فاعلية، ليكون باطنه حجة عليهم، وظاهره ترويجا للعدل العمري، في إنصاف بني هاشم، وإشراكهم ضمن مسمى قريش في الحكم .
إن ذلك التناقض والانحراف، والتغاضي عن مخالفة أوامر الله تعالى، واتباع الهوى في تسمية البدائل للمبادئ والمفاهيم، قد أصبح طريقا مفتوحا لانتهاك ومخالفة ما هو معلوم بالضرورة، وإعادة طريد رسول الله إلى المدينة المنورة، وإعلاء شأنه، وتحكيم ولده على رقاب المسلمين، تحت مبرر الإحسان إلى القرابة، وصلة الرحم، التي حرص عليها عثمان بن عفان، وكانت سببا في ثورة ونقمة الناس عليه، واعتصامهم في ساحات المدينة ومسجدها، لإسقاط نظامه واستبداد أقاربه، إن لم يستجب لمطالبهم، بخلع وزيره الطريد ابن الطريد، وبمقتل عثمان، بلغ الانحراف في مستواه التراكمي حداً أفقد معظم المسلمين القدرة على التمييز بين الحق والباطل، وأنساهم اتباعهم الهوى، وخوف السلطان، قول رسول الله صلى الله عليه وعلى اله وسلم:- “علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيث دار” ، فقاتلوا الحق، كفرا وجحودا وتعنتا بدعوة الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى اله وسلم:- “اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله” ، وعميت قلوبهم وأبصارهم عن رؤية الفئة الباغية، التي قتلت عمار بن ياسر، وهو يقاتل في سبيل الله إلى جانب الإمام علي عليه السلام، وركنوا إلى تأويل من أضله الله، بأن من أخرجه هو من قتله، وغلبت المصالح والأهواء على آخرين، فنكثوا ومرقوا، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا، ونظرا لتفرق أهل الحق عن حقهم، واجتماع أهل الباطل على باطلهم، اتسعت دوائر الانحراف، وانفرجت زاويته، ليصل استبدال الولاية بالسقيفة، إلى أن تُبتلى الأمة بحكم الطواغيت الفساق، الذين اتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، وأصبح الظلم والفجور والمجون والفسق، سمة ظاهرة في سلوكهم ونهجهم واعتقادهم، لا يتحرجون من المجاهرة بالمعاصي، والترويج للمجون والتهتك والانحلال، حتى أصبحت تلك من السمات المميزة لحياة المجتمع الإسلامي، تحت مسمى الخلافة الإسلامية، والخلفاء المسلمين، وتحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وحين حاول المجتمع أن يفيق من سباته، وجد نفسه وقد بلغ به انحرافه مبلغا، لم يستطع معه الانتصار للحق، أو مواجهة الباطل، ليعود إلى حظيرة الظالمين عبدا خاضعا، يتجرع حسرات انحرافه وتخاذله وتفريطه بصمت.