شعرية الذات وجمالية الآخر في قصائد جميل حيدر

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

 إنَّ الواقع الرومانسي الذي كان يحياهُ الشَّاعر ألقى بظلالِه على إنتاجه الأدبي،  خاصةً أنَّ إنتاج الشعراء الرومانسيين ـــ مدرسة الديوان وأبولو وشعراء المهجرــــ كان يجِد له صدى لدى الشُّعراء الشَّباب في العراق ويؤثِّر فيهم, وكان ذلك في مرحلة الخمسينيَّات والستينيَّات، أي المدة التي شهِدت نُضوج  الشاعر جميل حيدر شعريَّاً, ويَلحظ قارئ الشعر العراقي الحديث أنَّ أغلب القصائد إنَّما هي قصائد حبٍّ تتأرجحُ بين التَّوق إلى امتلاك الحبيبة والظفر بها والتوسُّل إليها، وبين الحزن والخوف والبكاء الناتج عن فقدانها، أي أنَّ لغة الشِّعر في تلك المدة شهدت ظهور ألفاظ العشق والحبٍّ وما ينتج عنه من عواطف نتيجة الفقدان والأسى والبكاء والفرح فضلاً عن ألفاظ الطبيعة؛ لذلك فإنَّ الشَّاعر الرومانسي الشَّاب غالباً ما نراه يوحِّدُ بين المرأة والطبيعة([1]),

فعرض الذات والعاطفة الجياشة ومسحة الكآبة والتشاؤم والالتجاء إلى الطبيعة ومشاركتها كلها موضوعات عرفها الشعر المهجري وهي موضوعات رومانسية ([2]),ونلمح ظهور مثل تلك الألفاظ في قصائدهِ إبَّان مدة الخمسينيَّات والستينيَّات مثل (الحنايا , الشدو, الحزن, العبير, اللهيب, عطر مشبوب, اللظى, لحن, طيب) والمتأمِّل في نصوص الشاعر جميل حيدر الغزلية يجد أنَّ الشَّاعر يُقيم خطاباً بينه وبين نفسه من باب نجوى الذات، ولكن عن طريق خطابِ شخصٍ آخر مُجسِّداً حالةً من الانصهار الروحي بينه وبين الطبيعة ، فنراه يقول في قصيدة له عنوانها ” الخيال الضامر “([3]):     

    ما بين بعدكِ واقترابـي/// وقف الهوى خجل التَّصابي

    شببتُ فيكِ على خــيا/// لٍ ضامرِ اللمحــات كابي

    أرتاعُ منكِ واشتهـــيـــ /// كِ فأنتِ أنتِ هوى عذابي([4])

 توجَّهت ذاتُ الشَّاعر إلى الحبيبة بألفاظٍ رقيقةٍ وعذبةٍ تشوبها العاطفة الدافئة في انسيابيةٍ واضحةٍ تُجسِّد مرادَ الشَّاعر الذي جعلَ الهوى يجسد سلطةً عاطفيَّةً مؤثرةً عليه, إذ يصدِرُ خطابَهُ العاطفي إلى حبيبتهِ بألفاظٍ وعباراتٍ تعكسُ ما يختلجُ في نفس الشَّاعر من تباريحَ هوى العاشقين ووله ذواتهم إلى ما يُحبِّبُ نفوسهم , ويُقرِّبها من الآخَر الغزلي بغض النَّظر عمَّا إذا كان حقيقياً أم مخترعاً فالمرأة ” المحبوبة ” تتحد مع الذات في خطابٍ عاطفي يصور رغبات الأنا الحقيقية ومتخيلاتها في اللاوعي, الذي يفترض شكلاً من أشكال هذا الآخر ولكن هذه الأنا المفترضة ليست خيالية, بل معبِّرة عن متخيلات اللاوعي,([5]), لذا فإنَّ الشَّاعر لا يقوى على الرحيل وترك حبيبتِهِ بل يستمر في التودُّد إليها وكسب رضاها فيقول:

ليتَ التي ملكت ظــــلا/// لَ الحُسن تستهدي اِنسيابي([6])

  ووَلَهُ الشاعر بمحبوبتِهِ قادهُ إلى التَّعبير عنها بمظاهر الصَّد والاشتياق الذي تكلَّلَ بالوصف الحِسِّي لطبيعة تلك العلاقة ، ولكن مع عدم الانحراف عن الغزل الروحي إلى التغزل بمادياتٍ رخيصةٍ يمجُّها العقل, فالشَّاعر يجعل الطريق بينه وبين الآخر “المرأة” موصَداً، ولا سبيل يخرج الشاعر من معاناتِهِ وانغلاقه على ذاتِهِ إلَّا أن يمارس انفتاحه على الآخَر الغزلي الذي يكمل له ما استلبَ منهُ وكان سبباً في عزلته فالوعي الشعري لا يمكن أن يوجد إلَّا في الآخر بأن يعيش انفتاحه عليه ؛ لأنَّ هذا الانفتاح سبيله الوحيد لكي يمارس ذاته وفعاليته . إنَّ الآخر” المرأة ” يُمثِّل مشروعاً لهذه الممارسة لأنَّه مليء بالممكنات 0([7]).

 ويلجأ الشاعر بعد ذلك إلى إحاطة حبيبته بمظاهر الاستعلاء والإعراض والهجر في سبيل كسب ودِّ الآخَر الذي يتغزَّل به ، يقابله تنازلُ ذاتِ الشَّاعر عن كل تلك الأشياء وإبدال مكابدة الحياة وتعاستها التي تحياها تلك الذات الحالمة بنظرة ودٍّ من شأنها أن تعيد كلَّ شيء إلى مكانِهِ الطبيعي([8]), وتستمر الذات المتغزِّلة في تغليب تصورها للعالم العاطفي الذي تحياه([9]), وذلك من خلال استمرار الشاعر في حشد الصور العاطفيَّة التي تُفصِحُ عن ذاته الوالهة لرؤية الأحبة فيقول:

     لتفيَّأتُ أصفى غــد /// يرٍ ينتمي لدم السـَّحابِ

     من مدركٌ أنـــــِّي أذو/// بُ عليكِ ياامرأةَ السرابِ([10])

 إنَّ الشَّاعر المُحِبُّ هنا كان قد استعان بامرأةٍ ليس لها وجودٌ واقعيٌّ، وليؤكِّد فكرتَهُ هذه يلجأ إلى توظيف المرأة ” السراب أو الحلم ” وهي إحدى الوسائل التي يستحضرها الشَّاعر ليُعبِّر من خلالها عن الحب الأفلاطوني المفقود؛ لإبراز صورة الحبيبة العالقة في ذهنهِ, لذلك كانت المرأة هي الصُّورة والحُلم والواقع الذي يركن إليها الشاعر في الحقيقة والخيال لتملأ عليه وجودُهُ ([11]), إذ إنَّنا أمام شاعر يتجشَّم كافة الصعوبات ويذللها في سبيل لقيا من يعتقد فيه صفات الحبيبة، فيعمد إلى خلق مساحةٍ من التَّوافق الوجودي بينه وبين الآخر ؛ لتعويض الحرمان العاطفي الذي ترك أثرهُ في نفسهِ، والذي تَجسَّدَ بمحبوبته الغائبة وحضورها معه سراباً أفلاطونياً، إذ تؤدِّي المرأةُ بفعل الحبِّ دوراً فاعلاً في الحياة من خلال ثنائيَّة الحضور والغياب، فحضورها في الحياة يملؤها عاطفةً وبهجةً, في حين يُثير غيابها أجواء الخواء والحرمان([12]).

     والغزلُ هو استجابة روحية تجذَّرت في ذات الشَّاعر، وإنَّ أول الشُّعور بالانجذاب نحو الآخَر يكون نتيجة تفتُّح الذات العاشقة على غيرها وعلى العالم([13])؛ لذلك نجِدُ الشَّاعر جميل حيدر لا يدِّخر جهداً في سبيل وصال محبوبتهِ والظفر بها والبوح بعاطفته لها فنراه يقول:

  وبأنَّ نهرَ الشوقِ يجــــ /// ري فيَّ من دون إنســـكابِ

   فإذا تلصَّص بعضُ زغـــــ ///بِ الرِّيش في همسٍ مذابِ

    تتشابكُ الألوانُ منــــ ///هُ فيختفي لحنُ الــــــعذابِ([14])

   ونار الشوق هذه ,هي النار المتأجِّجة دوماً , لا تستكين ولا تهدأ , بل إنَّها تضطرم حتى في اللقاء فتُشير إلى صدق الحب وتفرُّدِه ([15]), وتتوجَّه الذاتُ إلى الحبيبة بخطابٍ يستبطن معاني الألم، واللوعة، والرغبة في عدم الافتراق والتزام الشاعر الصمت، إلَّا أنَّ عواطفَه جسَّدت ما يدور في مخيَّلته شعراً متخذةً بذلك من حبِّهِ الزائد للآخَر وسيلةً للكشف عن حالتِهِ النَّفسية وعن موقفِهِ الانفعالي.

   وفي قصيدة أخرى يتغنَّى الشاعر بمفاتن الجسد الأنثوي؛ لأنَّ حبيبتَهُ ساحرةُ الغرام فيتوجَّه إليها, ويُحيطها بهالةٍ كبيرةٍ من كلمات الإغراء المعسول فيقول في قصيدة “هالة”:

أرهفوا الصَّالة بالعزف فدبَّ الفنُ نقرا

في اِنعطاف جسديٍّ شبَّ إغراءً وسحرا([16])

     هنا يظهر لنا الشَّاعر بألفاظٍ غزليَّةٍ تنحرف عن الغزل الروحي والعفيف لتنقادَ إلى التَّغزل بماديات المرأة التي تُبيح للمتلقِّي وضعَها تحت عنوان الغزل الحِسِّي , فالشاعرُ قد اختزن المرأةَ في ذاكرتهِ فهي تمتلك مخيلتهِ , وتعيش معه في أحلامهِ , الأمر الذي يعكس احتشاد النَّص وازدحامهِ بالصُّور الحِسِّية والحركيَّة من خلال الألفاظ الدالَّة على الحركة مثل ألفاظ انعطاف الجسد والإغراء والرَّقص , كذلك الألفاظ التي تدلَّ على حركة الزمن وتقلبهِ من الزمن الماضي مثل ألفاظ ” أرهفوا , دبَّ , شبَّ ” إلى الزمن المضارع في أبيات النَّص اللاحقة ﻛ ” يقرأ , يخفت , يغتلي ” وهذا يدلُّ على تموُّج الذات وعدم استقراريتها وإبرازها بوصفها وسيلةً يستعين بها الشَّاعر على أداء المضمون الشِّعري المختمر في عقلِهِ[17], إذ يُشكِّل الحبُّ وجوداً حركياً في حياة الإنسان فهو يصنع المعجزات وله القدرة على مساعدة الإنسان في أن يتعرَّف على وجودهِ من خلال اعتراف الآخر به , فضلاً عن كونه الحقيقةَ الكبرى التي تُعطي الحياةَ البشرية جانباً غير قليل من قيمتها , وما ينتج عن ذلك الحب من خروج المحب من تمركُزهِ الذاتي ، وسعيهِ جاهداً في سبيل إعطاء الأولوية أو الصدارة للآخَر([18]), وتبدو المرأةُ في حياة الشَّاعر جميل حيدر حبيبةً ومعشوقةً , يجِدُ فيها صفات المرأة التي تملؤ عينَهُ وقلبَهُ , والتي كلَّما زادَ تحديقاً بها ظهرت عليها معانٍ جديدةٌ تخلع عليها سمةَ الحداثة والجمال فنراهُ يقول :

أرخَتْ الفتنةُ فيهِ ثم جسَّتها بأخرى

وبعينيها التياعٌ لفنونِ الجسمِ .. يقرا

كلَّما يخفتُ معنى حدَّقتْ فيه فأورى([19])

     تتوجَّهُ ذات الشَّاعر إلى الآخَر الحِسِّي بكمٍّ هائلٍ من المشاعر الوجدانية الممتلئة بالحركة والحيوية والانفعال , فقد عمدت إلى تصوير أنثى راقصة تتمايل طرباً لإثارة الحركة في كلِّ ما يحيط بالمشهد عموماً جسَّدتها مجموعةٌ من الأفعال ” في انعطاف جسدي, أرخت, يخفت ” وإغراء الحضور بالدلالة التي يُثيرها التَّخيُّل والتَّأمُّل والانشغال بتلك الصور المرئيَّة التي تدل على تأثُّر الشاعر وانفعاله بمشاهداتٍ حيَّةٍ تعمُّق من تجربتهِ, وتُؤثِّر فيه فكريَّاً وعاطفيَّاً , وتُهيِّئُ السُبُلَ لميلاد القصيدة فهي في جميع أحوالها تأخذ بكيان الشاعر وعواطفه ومشاعرهِ ، فهي تُؤثِّر في الشاعر فكراً وخيالاً وحِسَّاً ، فتُثير في نفسِهِ أفكاراً تُشكِّل الموضوعَ الذي تدور حوله القصيدة فتُفجِّر في نفسِهِ ملكةَ الخيال والموسيقى , وتُنشِئ لها لغةً خاصةً في ألفاظها وتعابيرها ([20]).

المراجع:

([1]) ينظر : دير الملاك : 170 .

([2]) الحداثة في الشعر العربي المعاصر بيانها ومظاهرها : د. محمد العبد حمود: 41 .

([3]) ينظر على سبيل المثال قصائده : ( المطر بين تناقض نظريتين ) , ( يوم خائن ) , ( ظلامة المصرع ) ، (هالة) ، 24 ، 33 ، 38 ، 47 .

([4])المَجموعة الكاملة ، نبعٌ وظل : 36 .

([5]) التجليات الفنيَّة لعلاقة الأنا بالآخر في الشعر العربي المعاصر : 139 .

([6])المَجموعة الكاملة ، نبعٌ وظل : 36 .

([7]) جماليات الشعر العربي: د. هلال الجهاد: 145 .

([8]) ينظر : مدخل إلى سوسيولوجيا الأدب العربي : محي الدين أبو شقرا: 132 .

([9]) ينظر : معجم المصطلحات الأدبية : د. سعيد علوش .

([10])المَجموعة الكاملة ، نبعٌ وظل : 36 .

([11]) النور والظلام في شعر البحتري : د. نوزاد شكر الميراني : 169 .

([12]) ينظر :م0ن: 169 .

([13]) ينظر : الحب عند العرب: 64 .

([14])المَجموعة الكاملة ، نبعٌ وظل : 37 .

([15]) تراجيديا الموت في الشعر العربي المعاصر : د. عبد الناصر هلال: 96 .

([16])المَجموعة الكاملة ،  نبعٌ وظل : 47 .

[17] الذَّاتُ والآخرُ في شعرِ جَميل حيْدر : علي  حسن عبيد : 86 0

([18]) ينظر : تراجيديا الموت في الشعر العربي المعاصر : 95 .

([19])المَجموعة الكاملة ، نبعٌ وظل : 47 .

([20]) في الشعر العربي الحديث : د. أحمد مطلوب :36.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى