قصيدة الشخصية في ديوان حيدر عبد الخضر.. هذا غبار دمي
أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
قصيدة الشخصية واحدة من التنويعات الأسلوبية التي وظفها الشاعر العربي الحديث في قصيدته الحديثة, وقد امتثل الشاعر العراقي لهذا النزوع الأسلوبي في قصيدته عبر أجيالها الشعرية المتباينة بدءا من مرحلة الريادة,وانتهاء بآخر التجارب الشعرية الحديثة[1],وتطمح هذه الدراسة إلى إجراء مقاربات تأويلية أسلوبية لهذه الظاهرة منطلقين من مسوغات كثيرة لعل أهمها هيمنة قصيدة الشخصية, وشيوعها في التجارب الشعرية العراقية الحديثة, وشيوع الأطر النوعية البنائية المختلفة التي انساقت إليها في تلك القصائد,فضلا عن اختلاف النظر بشأن توصيفها أو تقويمها, ولعل السؤال الأهم الذي تحاول هذه الدراسة صياغته يمكن بلورته بالآتي:هل شكلت القصيدة الشخصية نمطا بنائيا فنيا مستقلا من بين الأنماط البنائية التي عرفتها قصيدة الحداثة الشعرية العراقية؟إن الحديث عن قصيدة الشخصية يعني البحث في مظان كثيرة متداخلة,منها مصادر تلك القصيدة ,وفضاؤها المرجعي,وأساليب بناء تلك القصيدة, ووسائل تشكليها,وكذلك التحولات البنائية التي طرأت عليها,وهي تنتقل بين موجات الحداثة التي ضربت ساحل الشعر العراقي,أو تلك التي توغلت في عباب بحره الحداثي المتلاطم[2],وإذا ما أردنا إسقاط البديهي من النظر النقدي فسنسقط أول ما نسقط تلك الآراء التي تجد في قصيدة الشخصية امتدادا لشعر المدائح,والمراثي, بل الغزل أو القصائد الغرضية الإنسانية بعامة,ونسقط كذلك النظر إلى قصيدة الشخصية على أنها امتداد موضوعي لقصيدة المناسبات,التي شكلت قوام شعر المناسبات الشخصي,أن ثمة مفارقة ينبغي طرحها في هذا الموضع تقوم على التناقض الجدلي بين قصيدة الشخصية الوقائعية ,وبين ما دعا إليه شعراء الحداثة العرب من إهدار الدم الوقائعي ,وبطلان شعر الحوادث,والوقائع,فجوهر الشعر الحديث ينبع من مقولة بودلير في السير دائما ضد الحداثة أو في ما ردده كثيرا أدونيس في أن :شعرنا القديم يتكلم عن العالم, وشعرنا الحديث يتكلم العالم[3],وإذا ما جعلنا منطلق هذه الدراسة ظاهراتيا فسندمج وعينا بقصيدة الشخصية على نحو مغاير للسلفي, والمسبق, والتفسيري, والوقائعي وأن لا نسند لهذه القصيدة دلالة ما ورائية إن صح التعبير,بل أن يكون نقدنا لها قائما على صياغة تجربة قراءة تتماهى مع مكوناتها, وأنساقها عبر إسقاط كل ما هو قبلي عنها,لايخفى أن قصيدتنا العراقية الحديثة ليست متجانسة,وتخضع قصيدة الشخصية من بين ضروبها لهذه النظرة أن الأخذ بإطراف جمالية جديدة في التداول النقدي لتلك القصيدة هو ما ينبغي رفعه من أصوات النقد الحديثة بعيدا عن الارتداد إلى الآراء الشاحبة,أو العتيقة التي تنظر إلى النقد على انه إزجاء لإجابات تفسيرية عن الفتوح الشعرية ,ولتحديد أشكال قصيدة الشخصية ,وضروبها ينبغي تأكيد وجود ثنائية ضدية انطلقت منها أنماط الشخصيات في القصيدة العراقية الحديثة,وهي ثنائية الماضي,والحاضر التي تتفرع إلى مزيد من الثنائيات التوافقية معها.
1- الشخصيات الدينية:تمثل الشخصيات الدينية ضربا مهما يمتلك صوتا انتشاريا في قصائد الشخصيات ,وإذا ما أخذنا بنظر العناية أن الدلالات الدينية هي دلالات محافظة,ذات بعد لاهوتي,عرفاني,يبدو التحول الدلالي فيها قائما على فاعلية التماهي مع الشخصية المستحضرة,والامتزاج معها في الأغلب بغية الوصول إلى مقصدية التوظيف المعاصرة,وحين نسقط عن الفني ما هو قبلي تندغم الدلالة الوضعية مع الدلالة الجديدة عبر التماهي,والانصهار,ليصير الآخر ألهو معادلا للأنا[4],ومن الأمثلة المهمة في هذا الموضع نص الشاعر حيدر عبد الخضر في قصيدته(حجاجيات):
حسبه خليفة القهر
على العباد
لذا أسماها
واسط
لأن سوطه
أصبح وسطا
بين المسلمين
لا يفرق بين
جسد
وآخر
أهلكه كتمانه
وأرقته دماء
ابن جبير[5]
ولا شك في أن اختيار الشاعر حيدر عبد الخضر,أوسواه من الشعراء العراقيين,لشخصية التابعي الجليل سعيد بن جبير يأتي محكوما باستعارة دلالة أو علامة الظلم,والاضطهاد,أو اختزان الأذى باختلاف مظاهره ,وأسبابه,ليأتي موشور الفن محتشدا بلون الألم الرمادي الطاغي على ما سواه من ألوان الحياة0 ويركز النص أيضا على علامة الصبر بوصفه معادلا موضوعيا للألم,واختار الشاعر الرمز الديني سعيد بن جبير ليكون شخصية النص,وفاعله,ولم نجد ثمة تحولا للعلامة المستعارة,أو المغايرة لها بل تماهيا معها ,ويظهر هذا التماهي ممسكا بصور النص ,ودلالالته التي تعبر بجلاء عن دلالة مضاعفة لدلالة الصبر وهي دلالة استعذاب الألم,التي هي واحدة من علامات التصوف,والمكابدة,وتقديس الألم,وهي تضاهي اللب,والفحوى لصبر الانبياء0[6]
2- الشخصيات التراثية- الشعرية:نختار في هذا النمط من الشخصيات شخصيات التراث الشعري بحسب,إذ ينطوي هذا البعد التراثي على شخصيات أخرى بعضها سياسي,أو فلسفي,أو فولكلوري,ويخضع هذا الاختيار للمقترب المنهجي,فقد وجدنا في شخصيات شاعرنا حيدر عبد الخضر المستدعاة اختزالا للبعدين الفني,والمرجعي ,بوصف الأخير يمثل الطاقة المرجعية الدائبة للتكوين الشعري الحديث الذي يمتد أبدا في قصائده,فضلا عن قدرة هذا الأنموذج على تأشير مسارات التشكيل الشعري,وأشكال الحضور في هذا الضرب من القصائد الشخصية التراثية بعامة,ونمتثل في الأنموذج الذي سنقف عنده إلى فاعلية رصده ,وأشكال توظيفه بما لا يخرجنا عن كثافة التوصيف النقدي المطلوب ,فليست العبرة في الإكثار من النماذج سوى التدليل المتكرر,بعد أن يتم فحص الأنموذج ,والتوقف عند أعرافه الجمالية,مع الاستشعار بطاقة التموج,وحالات التعدد التي تبثها تجليات النص المتغلغل البنائي,والأسلوبي,وتؤشر قراءتنا للقصائد عند الشاعر حيدر عبد الخضر موجتين أسلوبيتين في القصائد الشخصية الشعرية,الأولى هي الموجة الجزئية التي يتم بموجبها استحضار علامة جزئية من علامات الشخصية التراثية المستحضرة,كأن تكون بيتا شعريا,أو صورة شعرية,أو إيقونة دالة,وهذا مما يدخل في مجال دراستنا,فهو اقرب شكل من أشكال التناص أو التعالق النصي المحدودة, ,أما الموجة الثانية ,وهي ما يهمنا فمعها تجري تغطية النص بأكمله بطبقات الشخصية الشعرية المستعارة,على نحو قادر على تدريب العين,والأذن على حالة الإشباع الدلالي بما يحقق المتعة الجمالية[7],يطالعنا أنموذج لحيدر عبد الخضر,وهو يستعير شخصية (موسى كريدي, مالك بن الريب,خليل الخوري, ورامبو, وعلي جواد الطاهر) فضاء تكوينيا, فنراه يقول في قصيدته (هم.. الآخرون..نحن):
مثقلون عزلة
مأخوذون براءة
موسى كريدي..ذهب لزيارة (مالك بن الريب)
في منفاه,
خانته قدماه
خليل الخوري.. في(المركب السكران)صافح
رامبو,
في (الرشيد).. عاد بلا كف
علي جواد الطاهر..
وجدوه
مضرجا بالحنين[8]
مع هذا الضرب من القصائد يجري امتصاص المعطى الشخصي التراثي القديم,وتأهليه من جديد لأغراض العصر الجديدة,وجرى في هذا النص اختبار حالة من حالات التماهي مع العلامة الشعرية المستحضرة,وجعلها وترا نشازا في قيثارة الزمن الجديد الذي لم يعد الشعر فيه مخدع عصر للسلاطين,ولا باقات زهر,فحالات الرفض هي تلك التي أججت موقف الشاعر حيدر عبد الخضر,فالموقف الجديد أورث القديم طاقة التحرر,والثورة,وليس العكس,عبر مخاطبة صوت الشخصية موطن النص,ومناداته,وإغرائه بمفردات الثورة الجديدة,ويستبدل بمفردات التشاؤم,والعدم ,وفاعلية الجهاد التي نجدها جميعا تتجسد في التماعات صور القصيدة[9]0 (مثقلون عزلة/مأخوذون براءة/خانته قدماه/عاد بلا كف/مضرجا بالحنين)0 من هنا نقول للقارئ,بان قصائد الشاعر حيدر عبد الخضر ما هي إلا نصوص معمقة في أفعال الدلالة,ووصف دقيق فوق مساحة المخيلة,يحمل تمظهرات عوالم النص لدى الشاعر نحو ذاكرة جمعية محتشدة بطاقات متعددة في رسم قسوة الألم ,والحنين,فوق لوحة تفجيرات خطابية,وصورية ذات علاقات متواشجة,وخلفيات متون المعالجات الشعرية,وآفاق إنتاج الوعي بالأشياء,وعوالم إيحاءات التضمين للقصيدة0
المراجع:
[1] لعبة المتاهة في التأويل ومقالات أخرى:د0 بشرى موسى صالح:39 .
[2] المصدر نفسه:40 .
[3] ينظر الناقدة د. بشرى موسى في كتابها لعبة المتاهة:40 .
[4] المصدر نفسه:43 .
[5] هذا غبار دمي:41 .
[6] ينظر لعبة المتاهة:44 .
[7] ينظر لعبة المتاهة في التأويل:55 .
[8] هذا غبار دمي:18 .
[9] ينظر لعبة المتاهة:56 .