متذوقات الحزن الأبدي ومتذوقات السم
شوقية عروق منصور | فلسطين
اللوحة للفنان البولندي: أنطون كوزاكيفيتش
عندما قاموا بدفن الأم الفلسطينية إلى جانب ابنها الشهيد، تسلل من بين ذرات التراب وعمق الحفرة حذاء ابنها الشهيد، وأمام وجع الفراق ودموع الدهشة المذعورة من قبل المحيطين بالقبر المفتوح، تناول الأخ حذاء أخيه الذي قاموا بدفنه وهو بكامل ملابسه وأناقة نضاله ورقي دمه ونضرة أهدافه، وبقي الحذاء شاهداً على المطاردة والركض والاختباء، لكن في النهاية قتل الأخ برصاص الاحتلال قبل ثلاثين عاما.
عبر شاشات التواصل الاجتماعي عرض شقيق الشهيد صورة الحذاء الذي مرت عليه السنوات والفصول وبرامجها وتقلبات طقسها، أما وميض الحذاء فقد نزف أسئلة وفتح شرايين الاشتياق، وهنا ترمي الذاكرة صوراً كثيرة، لكن أصعب الصور بؤس وقهر الأم الثاكلة التي شبت النيران في قلبها ولم تنطفىء، وبقيت تحمل الحزن أعواماً وكلما ارادت اجهاض حزن حملت حزناً آخر، فهناك الأبن الأسير منذ سنوات طويلة والأبنة أيضاً القتيلة.
في كوابيس التاريخ تظل هناك جسور بعيدة عن الخطوات، واذا كان الأخ الذي عرض صورة الحذاء قد تساءل بسخرية من يشتري هذا الحذاء؟ قد نجيب ما اندر الذين يفهمون معنى ورمزية حذاء كان يقاوم ويرفض ويسجل صفحات الكرامة؟
نعرف لا شيء يحمينا من تبادل العتاب والادانة، وحين نتوهم أن دستور المقاومة يجب أن يبقى مضيئاً، تنكسر قلوبنا من الواقع الذي يشير الى تبديل الدستور ونقف كالحمقى امام هروب الأجنحة التي لا تكف عن الطيران في عالم التنازل.
وحدها المرأة التي يحيط بقلبها وعقلها وخصرها الخوف والمسؤولية، والمرأة الفلسطينية ولدت مع الاعصار وهي ليست بحاجة الى معاطف للدفء بقدر ما هي بحاجة الى معاطف الأمان والاستقرار، هي وحدها التي تلعب لعبة الصراع مع الواقع الصعب والجوع والاذلال والسجن والشقاء وقسوة الظروف، قد يقول الرجل أيضاً له النصيب من هذه الألعاب الاحتلالية التي يتقنها المحتل حتى يفوز بلذة الهيمنة والقوة، لكن المرأة تبقى معجزة تهيئة الأجيال للغد.
كتبوا كثيراً عن المرأة الفلسطينية التي تعيش في حزنها الأبدي، كتبوا عن محطات الهموم وشرفات التحدي التي تطل من خلالها على واقعها المعتم، والأصعب لم يستشرها أحد، تبقى مجرد برميل من الأحزان النائمة تفيض بجنون عند استشهاد ابن أو تتنقل من سجن الى معتقل باحثة عن ابنها أو يهدم بيتها الذي بنته بشق النفس .
مرعب وموحش هذا الشعور الذي يدع الظلام يفرز ظلاماً ، والمؤلم أن التاريخ لا يتصالح مع وجه المرأة الفلسطينية ، بل يسعى لكي تقيم في أحد طوابق النسيان .
الأم الفلسطينية التي دفنت الى جانب ابنها الشهيد هي الرسالة الكبرى لوطن عليه أن يعرف أن المرأة الفلسطينية تعيش الحزن الأبدي ، وهي الوحيدة التي تتقن حتى اليوم مهنة مزج ضوء التفاؤل مع وهج الموت العابر عبر الرصاص .
أبواب التاريخ لا تغلق أبداً هناك دائماً صوراً جديدة حول النساء ، فقد كشف مؤخراً أن الزعيم الألماني “هتلر” اختار خمسة عشر امرأة المانية تميزن بالحسن والجمال لتذوق الوجبات المعدة له – فطور غذاء عشاء – خوفاً من دس السم، لأنه كان محاطاً بالأعداء من كل جانب ولا يثق بالطباخين أيضاً، فكانت وظيفة الحسناوات تذوق الوجبات قبل تقديمها للزعيم “هتلر” وفعلاً يجلسن ويأكلن وهن في حالة خوف ورعب من وجود السم ، وبعد مضي ساعة والاطمئنان أن الطعام خال من السم يتم الافراج عنهن ، ومع فرحهن الغامر المؤقت، لأن بين الوجبة والوجبة كان هناك الموت المنتظر.
أطلقوا عليهن “متذوقات طعام هتلر”، وبعد أن عرف العالم قصة تلك النسوة – تم قتلهن خلال الحرب العالمية الثانية – وبقيت امرأة واحدة تدعى “مرغريت فولك” قصت حكايات النسوة المتذوقات، مما أثار الاستغراب ودعا العديد من الفنانين لإطلاق مشاريع فنية لذكرى المتذوقات، وفعلاً تعرض الآن مسرحية في نيويورك تحت عنوان “متذوقات طعام هتلر” .
من يقوم سراً بزيارة صفحات المرأة الفلسطينية يجد وجعاً وقسوة أكثر من المتذوقات، اذا كن المتذوقات يعانقن الموت بين الوجبة والوجبة، فالمرأة الفلسطينية تعانقه بين اللحظة واللحظة .