استيعاب الزمن في رواية (أطياف خلاصجي) للكاتب ناظم جليل الموسوي
د. عماد الحيدري | العراق
تنتمي رواية (أطياف خلاصجي) إلى نمط الروايات التاريخية فهي تجنح إلى توثيق بعض ملامح الوجود اليهودي في العراق في حقبة محددة من حقب التاريخ الحديث وضمن حدود بقعةٍ معينة الحدود، ولكن هذا لا يعني أن تكون الرواية وثيقة تاريخية لا مجال لدخول العناصر الفنية في تسلسل أحداثها وإنما هي “نص تخيّلي نُسج حول وقائع وشخصيات تاريخية” (القاضي 145)، وهي بعد ذلك نصٌ أدبي خاضع في كل أحواله لاعتبارات البناء الفني لغةً وأسلوباً.
حاول الكاتب هنا أن يُمسك بزمام المجريات وأن لا يدعها تفلت من بين يديه فما كان منه إلا الاختباء خلف شخصية الراوي المشارك وهي شخصية اليهودي (عزرا داود خلاصجي) ومن بعده شخصية نجله (الياهو عزرا داود) وذلك في ثمانية أطياف من أطياف روايته، وكذلك الاختباء خلف شخصية الراوي العليم في بقية الأطياف القصيرة الأخرى التي أراد بوساطتها أن يضع اللمسات الأخيرة للوحته التي استعمل فيها جملة من الأساليب السردية المتعارف عليها كالوصف والحوار والحركة فضلاً عن عناصر الرواية الثابتة من حدثٍ وشخصيات وزمان ومكان مع إجراء التحويل الفني على المادة التاريخية لتكون نصاً إبداعياً يبعث في نفس القارئ انفعالات شتى أهمها الانفعال الجمالي(ظ: القاضي 120) من دون المساس بجوهر الحدث.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الرواية كانت قد تماهت مع المسكوت عنه لتشكل بوساطته واحةً ترتجي أن تكون واضحة الدلالة فالكاتب هنا سلك طريقاً قلّ سالكوه كسراً للسائد وإمعاناً في زجّ القارئ في الولوج في المتخفي والعالق في الصدور وهذا بحدِّ ذاته يعدّ مغامرةً جريئةً تُحسب لصاحبها وربما كان الذي دعاه إلى ذلك هو الخشية من ضياع هذا الكنز الموروث بأيدي العابثين.
يلحظ القارئ لهذه الرواية نمطية الأحداث التي قد تحدث في كلِّ زمانٍ ومكان لكن ما يميزها هنا هو رغبة الكاتب في تمرير رسائله إلى قرائه مشحونةً بأفكاره المنسجمة مع الواقع فمن رسائله ما كان مكشوفاً ولا سيما فكرة التعايش السلمي لأبناء هذا البلد بكل دياناته وأعراقه وطوائفه وأقلياته وهي رسالة واضحة تلقي بظلالها على مجمل مفاصل الرواية وهو ما صرّح به علناً في استهلال روايته بقوله: اليهود العراقيون كانوا أخوة لنا لا أعداء كاليوم.
وثمة رسالةٌ أخرى تكاد تكون مبطنةً أراد الكاتب تمريرها لقرائه وهي أن الفكر اليهودي مهما اجتهد في الايحاء للآخر بالإندماج معه في حياته البسيطة والعفوية إلا أن رغبته بالسيطرة على مصادر القوة لدى الطرف الآخر بنفَسٍ طويلٍ وتخطيطٍ قد يمتد إلى عقود من الزمن مع قدرةٍ بالغة في إدارة المال والأعمال والطاقات واستثمارها لصالحه، وهذا ما يمكن تلمسه عبر جملة من العبارات والجمل التي تتخلل الحوار الداخلي بين الشخصيات مثل:
نحن من نغيّر العالم، كل الأرض بأيدينا ص104
فأتحول إلى رجل تتحقق طموحاته دفعةً واحدة ص82
عادت لي أنفاسي وأنا أملأ خزانتي بالأقراط والدنانير ص138وغيرها كثير.
ولعل الأهم من هذا وذاك هو الغاية التي تنشدها الرواية في المعالجة الاجتماعية لقضايا كبيرة تتجسد عبر سلوك شخصياتها وطريقة أدائهم للصراعات التي تتخلل أحداثها وذلك للإفادة من هذا الأداء بوصفه سلوكاً لرفد الواقع وإنقاذه لأن “ما يهم في الرواية التاريخية ليس إعادة سرد الأحاديث التاريخية الكبيرة بل الايقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحاديث وما يهم هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية التي أدت بهم إلى أن يفكروا وبشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك تماماً في الواقع التاريخي”) (لوكاش46) لكي تكون تلك السير وذاك السلوك شعلة تستنير بها الأجيال اللاحقة، وإلا ما الجدوى من قراءة رواية بعشرات أو مئات الصفحات من دون أن نستلهم منها العبر لمستقبلٍ مشرق.
ولا يفوت العين الناقدة أن تستحضر الهاجس التربوي الذي تبتغيه رسائل الكاتب بلغته الواعية ليؤدي وظيفة مهمة في وظائف الروايات التي تتبنى الوقائع التاريخية الهادفة إلى استيعاب زمنها الروائي وإسقاط العبر المستوحاة منه على الواقع المعيش لغايات تربوية تلفت أنظار الجيل الجديد إلى تراثه سعياً للحفاظ على المحطات المضيئة فيه فضلاً عن استشراف المستقبل ورسم معالمه.
وفيما يتعلق بالبناء الفني فإن أهم ما يمكن رصده لهذه الرواية هو ذلك الاهتمام الطاغي بالوصف السردي الموجه للتفاصيل بوصفه بوصلةً لسير الأحداث فلا بكاد يخلو مشهد من مشاهدها من وصف للشخصيات الرئيسة والثانوية ووصفٍ للأمكنة والأشياء والمتعلقات وهذا بطبيعة الحال من شأنه أن يضفي على الرواية نكهة التشويق فضلاً عن دوره في فهم المجريات وفي تخيلها لدى القارئ، وهو ما يقدم له على طبق من اللغة الواصفة استراحات متكررة تقتضي في أغلب المشاهد انقطاع التسلسل الزمني للحدث وتعطيل مسيرة كينونته من أجل الوصول إلى المرحلة المنشودة في التخيل الذي يعكس سمات الشخصية في ذهن القارئ.
لم يكن الكاتب مزامناً لأحداث روايته ولا معايشاً لرواة مشاهدها لكنه اطّلع على مصادر تدعيمها والتقى بشهود العيان لكي تتضح لديه ملامح الصورة الروائية فيستوعب زمنها وهو بعد ذلك وبما امتلكه من مقدرةٍ لغوية وإمكانيةٍ وصفية عالية استطاع أن يعزز الوقائع التاريخية لروايته بأساليب تعبيرية داعمة لاستعراضه للأحداث الخارجية فما كان منه إلا التعويل على أسلوب الحوار النامي للإنتقال من حدث إلى آخر من دون أن يتسبب بعرقلة الانسيابية التخيلية للقارئ فضلاً عن قدرة الحوار على كشف المشاعر الداخلية لشخصيات الرواية.
إن رواية (أطياف خلاصجي) رواية متحركة نافرة للجمود في زمنيها السرديين فالتنقل الرشيق بين الأماكن واستعمال أفعال المضارعة الدالة على استمرارية الحدث وسرعة ردود الأفعال في أثناء التحاور الداخلي كل ذلك يدل على حركيتها التي تشد القارئ وتجعله متشوقاً لاستراحةٍ يلتقط فيها أنفاسه بين طيفٍ وآخر من أطيافه فضلاً عن كونها استوعبت جوهر مادتها التاريخية وزمنها الروائي ليتسنى لها عكسه على واقعٍ معيش ربما تتماهى كثير من وقائعه مع وقائعها التاريخية فتكون بذلك قد أدت دوراً مهماً في إلغاء المسافة الزمنية أو تقريبها بين الزمنين الروائي والواقعي بغية تسهيل مهمة القارئ في الإدراك والتخيل وتحقيق المقصود في إيصال الرسالة الأدبية.
المراجع:
1/ الرواية والتاريخ، دراسات في تخييل المرجعي، محمد القاضي، دار المعرفة، ط١، تونس، ٢٠٠٨.
2/ الرواية التاريخية، جورج لوكاش، ت: د. صالح جواد كاظم، دار الشؤون الثقافية العامة، ط٢ بغداد، ١٩٨٦.
3/ أطياف خلاصجي (رواية)، ناظم جليل الموسوي، منشورات أحمد المالكي، ط١ بغداد، ٢٠٢١.