شعرية الحدث في مسرحية ( تموز أنشودة الخلاص ) لـ” رشيد مجيد “

أ.د مصطفى لطيف عارف |ناقد وقاص عراقي

الحوادث وهي موضوع المسرحية  أو الوقائع الجزئية التي يحاول الشاعر نظمها,أو التي تدور حولها الحكاية,وهي تتشكل من خلال ملاحظات الشاعر,ومشاهداته,وتجاربه اليومية,وانتقاء ما يثير اندهاشه,وما يرى فيه أهمية خاصة تصلح للموضوعات الشعرية, والشاعر الجيد هو الذي لم يكتف بالسماع,والقراءة,والمشاهدة,وإنما يعمل على سبر أغوار النفوس الإنسانية,وكشف أعماقها,والتعرف على ما يدور فيها,فهو إذا ما التقط برؤيته الثاقبة الأحداث التي تثير اهتمامه,وكشف بعض الأمور التي تزيد من تجربته اختزنها إلى وقت الحاجة,وساعة النضج,والمخاض, وللإحداث أثر كبير في أهمية القصة,ونجاحها,ولكن بشرط استعمال عنصر التشويق بصورة حسنة,ذلك الذي يعد أبرز وسائل تسيير الأحداث ,وإدارتها,فهو- لو أحسن استعماله- يتمكن من إثارة اهتمام القارئ ,وشده إلى المسرحية ,وقد لاحظ فورستر هذا العنصر,وأثره فيما قامت به شهرزاد إزاء زوجها السفاح شهريار فقال وقد نجحت شهرزاد من سوء مصيرها,لأنها عرفت كيف تحسن استعمال سلاح التشويق,تلك الأداة الوحيدة في الأدب التي لها سلطان على الطغاة المتوحشين- فهي لم- تبق على قيد الحياة إلا لأنها استطاعت أن تجعل الملك يتساءل دائما,ماذا سيحدث بعد ذلك؟وفي كل مرة تدركها شمس الصباح فتتوقف في منتصف الجملة تاركة إياه يحملق فيها كالمذهول,[1] ولا يختلف نص الشاعر الكبير رشيد مجيد رحمة الله عليه في مسرحيته المخطوطة ( تموز أنشودة الخلاص) إذ يعتمد الحدث في مسرحية (تموز أنشودة الخلاص) على قطبي صراع رئيسيين هما :(السلطة /الشعب) ،هذين القطبين من خلال الطبيعة الاستغلالية التي تمارسها السلطة على أفراد الشعب يمثلان القوة الدرامية الوحيدة في المسرحية ،ويأتي التعبير عن هذه القوة بواسطة توزيع أجزائها (الشخصيات)إلى مواضع نفوذ درامية في المسرحية فنجد منذ البدء أن (المنشدون) يتذمرون من واقعهم السيئ الذي يمارس القمع والإرهاب ضدهم ،ولذلك تجيء المقدمة الافتتاحية في المسرحية عبارة عن شكوى مريرة من خلال الحوار الآتي :

سئمنا صولة الظلم

وعسف المستبدينا

بكينا لا البكا أجدى

ولا انفضت ماسينا

وطوفنا مع الغربة

في ليل مهاوينا

إلى إن أيقظ الفجر

 فجيعات الأسى فينا[2]

إلا أن الشاعر رشيد مجيد يقع هنا في التباس درامي, وإن هذا الاشتياق الدرامي للحدث لا يخدم تطور الحدث الدرامي،ويفقده سمة المفاجئة،والتشويق فالمتلقي (قارئ/ مشاهد ) بحاجة إلى عنصر التشويق حتى يمنح عملية اتصال المسرحية بعدها الفاعل والمؤثر,ولذلك نجد أن تجربة المعاناة التي تعيشها الشخصيات التي هي نفسها تجربة القيد لاتخاذ مساحة كافية في المقدمة الافتتاحية إذ تقتصر على التراشق الحواري بين شخصيات المنشدين التي تتحول إلى ذوات متشابهة من حيث لغة الحوار, والتأثير في الحدث, عندما يتحدث عن خلاص المنشدين من خلال الحوار الآتي :ـ

فأطلقنا الجراحات

 التي أضحت بواكينا

فهيا تدفن العار

الذي جز نواصينا [3]

ولاشك أن التناول المقطعي من الحدث يفقده الخاصية التي يتمتع بها البناء الدرامي من حيث كونها معقودة بأواصر بنائية متينة تمنح المسرحية نسقها الخاص بها ، وتبقى أنماط الصراع في المسرحية بحدود التراشق الحواري دون أن يتعدى ذلك إلى التصادم الدرامي الحقيقي بين الشخصيات باستثناء مشهد التحقيق مع المتهم الذي يمتلك مساحة درامية تتصادم فيها الإيرادات البشرية من حيث كونها ممثله لنظم اجتماعيه ، وسياسية مستقلة عن بعضها البعض0

ويكتفي الشاعر رشيد مجيد في إبراز صورة الصراع بين قطبي (السلطة / الشعب) بهذه الصيغة البسيطة من صيغ الصراع ( التراشق الحواري ) ، وفجأة يرتد بنا زمانيا إلى عصر زرقاء اليمامة ,أو إنها هي تأتى إلى زمان الشخصيات لتعلن نبؤتها ، ولكن دخول زرقاء اليمامة يأتي دخولا مفاجئا دون أن يمهد له بفعل درامي ما يحقق له صداه ، وتأثيره الذي ينبغي أن يحدثه , إذ إن طبيعة البناء الدرامي تفرض على الشاعر ضرورة تقديم وضع معقد يتبع التمهيد لظهور فعل (زرقاء اليمامة ) حتى يصبح خروجها مؤثرا وله وقعه الخاص , إن الفعل الذي تقوم به زرقاء اليمامة من حيث الضرورة ألدراميه فعل له أبعاده المستقبلية في صيرورة كونها تأتى منذره ،ومبشره ، وهو مما يخدم حالة الناس الذي يعيشون تجربة القيد , فنراه  يقول :

أنني المح صوب الغـد  بركـانا وريـحا ودمـاء

وارى ألوية تـخفق للنـصر ،وأخـرى تنـطوي

وبرقا تشرب الليل ، فلا تبقي على منغلق ما يحتوي

وسماء غير ما نألفها الآن ،وأرضا بعد إن يغسلها الدم

وقيودا تتحطم

وقلاعا تتهاوى في طريق المتعبين

وعروشا تتمنى لو تخلت عن ملوك أغبياء

أنها الريح التي تنذر بالموت . . .أراها من جديد

انه الطوفان يغزو هذه الدنيا ،   ولكن . . .

أي طوفان جديد[4]

إن هذه الرؤية التي تأتي على لسان زرقاء اليمامة أنما تدفع للأمام الحدث الدرامي كونها تمنح الفعل عنصر الترقب والتشويق لأنها تتحدث عن قرب حدوث طوفان جديد محيلة إلى طوفان نوح الأول أي انه هذا الطوفان الجديد سيترك أثره على الأرض مثلما ترك طوفان نوح الأول أنها محاولة لاستشراف المستقبل عبر قراءة الحاضر, قراءة واعية ،ودقيقة ,إلا أن الشاعر لا يحاول أن يعزز هذه الرؤية المستقبلية بمشاهد درامية حيث تمنح الحدث الدرامي مشهديه توفر له الخروج عن نمط الخطاب الشعري الفردي بل يضل الشاعر أسير لواقع المفردة الشعرية دون أن يتعدى ذلك إلى واقع الطاقة الدرامية في النص لنقرأ ما يلي :

الشخص الأول : (مخاطبا احدهم ):-

سمعتهم …؟

أنهم برابرة ،برابرة

وزمرة مغايرة

  الشخص الثاني : (مقاطعا ):-

وخنجر يلهث في أيدي الغزاة الفاتحين

 الشخص الثالث :-

لا تخشى كبريائهم … فأنهم يحتضرون

وان في شفاههم

الشخص الرابع : (مقاطعا ):-

حشرجة الخوف ،وأصداء المنون

وأنهم مهما ترصد العيون

هياكل منخورة [5]

إن هذا الاستطراد الحواري يعد نوعا من الاجترار الدرامي  الذي لا يؤدي إلى شيء بدليل انه لا يخدم الحالة التي تليه ،وهي ظهور شخصية (أبو ذر الغفاري) كونه احد شخصيات الثورة ،هذا الرمز الذي يزج به الشاعر رشيد مجيد  في الحدث من اجل أن يكون منشط للحدث الدرامي ،ودافعا له ,وما يلاحظ على توظيف هذه الشخصيات أنها تدخل دون تمهيد أو ضرورة درامية تراكمية وهذا يعني أن الشاعر هنا يعاني من مأزق البناء الدرامي لسبب تسلط الطاقة الشعرية على الطاقة الدرامية في النص ,فنراه يقول : على لسان أبي ذر الغفاري :

انتم يا من ولدتم مولد الأحرار في هذه الحياة

هل تعودتم عذابات الحياة ؟

فتشردتم حيارى .لا تذوقوا سوى بؤس الحياة

أي معنا بعد هذا للحياة ؟

ولمن هذه السيوف المغمدة

أجياع وسيوف مغمدة ؟

أي كفر يغضب الله …جياع وسيوف مغمدة ؟ [6]

ويعاود الشاعر رشيد مجيد الدخول في نفس المأزق الدرامي الذي تعيش فيه أحداث المسرحية كونها أحداث لا تتم عن طريق التصادم الدرامي ,وأنما تأتي بصيغة البوح الشعري الذي يحيل النص إلى شكل هجين من الخطاب الشعري فلا هو يتمثل بصيغ الدراما من حيث مراعاة العناصر الفردية ،والملحمية فيها , ولا هو يستسلم لغنائية الشعر ،وفردانيتة ،كما أن التكرار ألمشهدي يفعل فعلته في سكونية الحدث ,وحياديته

ولعل مشهد التحقيق الذي يأتي بعد الأنشودة الثالثة هو المشهد الوحيد الذي يستفيد من فاعلية الدرامي  في تأسيس هيكليته إذا أننا نجد صراعا واضحا بين إرادتين هما إرادة المحقق بكل ارتباطاته السلطوية ،وإرادة المتهم بكل جذوره الشعبية ،والجماهيرية , فنراه يقول :-

ضابط التحقيق :ـ

متهم أنت . . فأين هويتك الأولى ؟

هذي الأوراق مزورة

وجواز مرورك لم يختم

متهم أنت . . . وما دمت هنا فتكلم

المتهم الأول :ـ

لو تسمح لي أن أتكلم

أتحداكم ، بل ألعنكم ابصق في قبح وجوهكم

أتحدث عن حقدي

عن أوراقي ،الممنوعة ،عن اثر القيد

وعن الجرح الممتد إلى قدمي

عما قاسيت وراء الجدران ،وفي الزنزانات مع الموتى

ومع الفقراء المنتظرين بلا ملل

ريح الغضب الواعي ،وصدى لعنات الدم [7]

ويكشف هذا المشهد الدرامي  حجم المعاناة التي تحت وطأتها قطاعات كبيرة من الشعب بفعل سياسة القمع ،والإرهاب التي تمارسها السلطة إزاء المتظاهرين ،والمعتقلين ،ويعزز الشاعر هذا المشهد بمشهد آخر يقوم فيه احد المخبرين بتشخيص أفراد من المتظاهرين ،والمعتقلين ،ويعزز الشاعر هذا المشهد بمشهد آخر يقوم فيه احد المخبرين بتشخيص أفراد من المتظاهرين بقصد أدانتهم مما يوفر حركة درامية أكثر سعة مما هي في بداية المسرحية ,ولو استطاع الشاعر رشيد مجيد أن يمنح مسرحيته هذه الطاقة المتفجرة منذ البداية لاستطاع أن يحقق نصا يلتزم على الأقل ـ بشرط النص الدرامي – صاحب المواصفات الفنية التي تتناسب مع مستوى الطرح الفكري فيه , فنراه يقول :-

المخبر :

     هذان المحتجزان هما . . .

رأس الفتنة ،رأس الفتنة

ولقد أدركت قرارهما

كأنامل الصخب الأعمى

وأمام طوابير النقمة

ووراء الأحداث الأخرى

حتى انتهيا صوب الظلمة

       فلينتظرا . . .

تقاطعه أصوات من داخل السجن :

فجر الثورة

  فجر الثورة[8]

وبعد هذا المشهد الدرامي يأتي دور (طارق بن زياد )كقناع تاريخي له وقع مناسب ضمن سلسلة الفتح الإسلامي ,ولعل استحضار شخصية طارق ابن زياد دون غيرها يمنح المسرحية هنا بعدا عربيا, وإسلاميا خالصا ,فأشخاص المسرحية الذين يعانون تجربة القيد من جراء عمالة النظام السياسي القائم إلى الدول الاستكبارية يعالجه الشاعر رشيد مجيد  باستحضار مجد الدولة العربية الإسلامية في الأندلس عندما كان العربي المسلم سيد الشرق, والغرب دون منازع,والشاعر هنا يريد التفكير بذلك المجد من خلال طارق بن زياد الذي انفتح الغرب على يديه من اسبانيا ,والبرتغال ولان تجربه طارق في الفتح الإسلامي تجربه فريدة ،ومثيرة من نوعها خاصة فيما يتعلق بمشهد حرق السفن فأن استحضارها هنا يعد تمييزا واضحا للنص كونه يوظف الأقنعة التاريخية في خدمة الفعل الدرامي وإعطاء منشطات له ,ولأول مرة يأتي توظيف القناع التاريخي منسجما مع الوحدات الدرامية التي تسبقه فلا يأتي ظهور القناع التاريخي ظهورا تعسفيا كما في قناعي (زرقاء اليمامة ،أبي ذر الغفاري )بل متماشيا مع الحركة الدرامية في داخل النص ,فضلا عن أن توظيف هذا القناع بالذات (طارق بن زياد )بشكل تناقض مع الحدث الدائر بين خضوع الشعب لأدوات القمع المتمثلة بالنظام السياسي القائم في المسرحية ،والعميل لدول الاستكبار ـ وبين خضوع الغرب لسلطة الإسلام بقيادة طارق بن زياد,أن هذا التناقض ،والتفاوت التاريخي بين الحالتين يمنح المسرحية طاقة جديدة كانت بحاجة لها منذ المقدمة الافتتاحية (طارق بن زياد ): فنراه يقول :-

عندما أبحر طارق . . .

أدرك الموج بان الفاتح الشرقي طارق

وإذا الأندلس الخضراء ملء العين ملء الضمير

طفت بالموج . . . فأنكرت ضياعي

وترقبت شموخي ومصيري واندفاعي

ورجالي والمدى الأزرق والبحر الذي يبغي ابتلاعي

والمتصدي ،ولهيب السفن المحترقة

وسيوفا عربية

لم تدنسها يد مرتزقة

وتوافدنا على الموت . . . فخفناه    وفزنا

وانتصرنا . .

انتصر الشرق ، ولكن لاكما تنتصر المرتزقة

لاكما تنتصر المرتزقة . . . [9]

إن ظهور طارق يأتي ليمنح حدث المسرحية نهايته فسرعان ما بادر الشاعر إلى إنهاء الفعل الدرامي من خلال الأنشودة الأخيرة التي هي بمثابة أنشودة الثورة التي تمنح الشعب حريته ،وتقلب عروش السلطة الخاوية المشيدة بدماء الأبرياء وإخلاصهم , فنراه يقول :-

أيها المضطهدون

يا جموع الكادحين

لا تهونوا فلقد أن المسير

يستحث الثائرين

ذللو. انه درب عسير

حفه النصر المبين

كلنا في الأرض شعب

ثائر يبغي الحياة

كلنا في الوتر قلب

وحد الثأر منـاه

   كلنا بركان ثورة

ولظى يحرق عمره

نحن جرح ومسرة

نحن جرح ومسرة

نحن ثورة

نحن ثورة [10]

 

المراجع والمصادر:

[1] محاضرات في النثر العربي الحديث:د0 حاتم ألساعدي:41 0

[2] مسرحية ( تموز أنشودة الخلاص) مخطوطة: للشاعر رشيد مجيد : 3 0

[3] م0ن : 3 0

[4] م0ن : 7 0

[5] م0ن : 15 0

[6] م0ن : 21 0

[7] م0ن :30 0

[8] م0ن : 43 0

[9] م0ن:33 0

[10] م0ن : 48 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى