رثاء الآخر في قصيدة (إلى أين) للشاعر منذر عبد الحر

أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي

الرثاء من أغراضِ الشِّعر الغنائي يُعبِّرُ الشاعرُ فيهِ عن مشاعر الحزنِ واللوعةِ , التي تَنْتَابهُ لِغيابِ عزيزٍ فُجِعَ بفقدهِ لكارِثةٍ تنزلُ بأمةٍ , أو شعبٍ, أو دولةٍ [1],والرثاءُ, عرفهُ العربُ منذُ العصر الجاهلي , فقد كان الرجال والنساء يبكون موتاهمُ كما كانوا يَقفونَ على قبورهم مُؤبِّنينَ إيَّاهم مُثنِينَ على خِصَالهم , وقد يَخلطونَ ذلك بالتَّفكيرِ في محنةِ الإنسانِ وبَيَان عجزهِ وضعفهِ أمام الموت[2],وأمام حتميَّةِ هذهِ المأساةِ وقفت الإنسانيَّةُ منذُ الأزل, تُعبِّرُ عن عاطفة الألمِ كلَّما امتدَّت لها يدُ الغيبِ, لتُعطِّل فاعليةَ الحياة في إنسانٍ ما, ليكون الرثاءُ هو هذا التَّعبيرُ الذَّاتي بالتَّفجُّع على الميت وبُكاء فضائلهِ, وتصوير مشاعر وجدانية خالصة حيال حادثة الموت[3], ولا يقفُ الرثاءُ على تخليدِ الإنسانِ الميتِ فهو تخليدٌ لقِيمٍ اجتماعيةٍ وإنسانيةٍ اقترنت بهِ أيضاً , فكلُّ صفةٍ من الصِّفات التي يُقدِّمها الشَّاعرُ للمرثي تقترنُ بفضيلة ٍ من الفضائل, وهذه الفضائل تُمثِّلُ البنيةَ الأساسيةَ للإنسان السَّوي حيَّاً, وتكونُ سبباً لذكرهِ إذا مات, هذا فضلاً عن أنَّ الرِّثاء يُعبِّرُ عن فضيلةٍ إنسانيةٍ أخرى تتصلُ بالمبدعِ نفسه, تتمثَّلُ بالوفاءِ لإنسانٍ فارقَ عالَم الأحياء , وقد أجد الشاعر المبدع منذر عبد الحر في رثاء صديقه الشاعر سلمان داود الذي رحل سريعا , فنراه يقول :

لن أترك غمامات الليل

عائمةً في نار الصمت

ولن أترك سهام الفجيعة

تنال من حروفي

هل مللت الانتظار يا سلمان؟

اعرف أن بك لوعةً

هي…

اشتياق غريق لقشة صارت بعيدة

تريد إكمال جلستهم

يا….. لطيبتهم

حفزوك…

سعد الصالحي

وحسين سرمك

و عريان السيد خلف

وأحمد يعقوب

ومحمد علوان جبر

وحميد الربيعي

ووووووو[4]

  ويحتلُّ الرثاءُ مكانةً كبيرةً لدى الشَّاعر منذر عبد الحر , وهذا يتَّضحُ من خلال كثرة ورود هذا الغرض في أشعارهِ , ولعلَّ سبب ذلك يعودُ إلى فطرة الشاعر النَّقيَّةِ وأحاسيسهِ الفيَّاضةِ وصفاء سريرته , التي جعلت منه شاعراً لا يمتلك القدرة على تحمُّل مشاعر الكَمَد وفراق الأحبة , ومن ثَمَّ فمن شأنِ حوادث الموت ولواعج الفراقِ أن تُثير فيه المشاعر , وتَستَثير عواطفَهِ لتدفع بهِ نحو البُكاء والأنين , ويمكنُ أن نلحظ توزُّعَ الرثاء لديهِ بين ثلاثة معانٍ , أولها : معنى الرثاء الذي يختصُّ بالشاعر سلمان داود, والثاني: يتمثَّلُ بندب النَّفس وما يتصلُ بها من الأصدقاء , أمَّا المعنى الثالث فهو تأبينُ الآخر, فنراه يقول :-

كلهم..

يريدونك تقرأ عليهم

ما تبقى من علامتك الفارقة

انزل إليهم من غيمتك الأرضية

   ويمكنُ أن نَعُدَّ هذا النوعَ من الرِّثاء لدى الشاعر منذر عبد الحر مقتصراً على شخصيَّة صديقه داود سلمان بحكم فداحة مُصابهَا ، إذ كانت قصَّةُ رحليه حافزاً قويَّاً أثارت في نفوس الشُّعراء أحاسيسَهم المُرهَفة, ومشاعرهم الرقيقة وخيالَهم المجنح , فجاء رثاء الآخر لدى الشعراء بشكلٍ خاص قويَّ الأداء صادقَ العاطفة, وكان في سموِّ مقامه ورفعة منزلتِهِ النَّموذجُ الرَّائع الذي يحتذونه , ليجيء هذا النَّوعُ من الرثاء صورةً صادقةً كُلَّ الصِّدق للعواطف المكبوتة ؛ إذ لا يأتي الرثاء إلَّا عن شعورٍ صادقٍ وإيمانٍ عميقٍ , فكان هذا الرِّثاء أروع مَثَل للانفعال النَّفسي الذي يفيضُ بروحانيةٍ عاليةٍ تُمثِّلُ الفجيعة النادبة[5], في حوارية جميلة استطاع الشاعر منذر عبد الحر أن يصور لنا تناقض الحياة في قصيدته الرائعة , فنراه يقول :

نحن نبكي

وهم يضحكون

نحن نقيم مأتما

وهم يحتفلون بك

من يصدِّق أن أعمارنا

التي يا ما نشرناها

على حبل غسيل الوطن

جف عليها الأمل

وماتت عليها فواخت أحلامنا

وانطفأت فيها شموع السنين؟

يتبادر إلى ذهن القارئ عِلم الشَّخصيَّة بموتها المحتَّم ، واستشرافها لذلك القدر المؤلم , وهنا تظهرُ براعةُ الشَّاعر منذر عبد الحر في تجسيدِ ذلك المشهد الدَّامي والإلمام بتفاصيله , إذ نستشفُّ في النَّصِ ذلك الأسلوب الرَّقيق الذي يُثيرُ الرَّحمة في أقسى القلوب , ويَستدرُّ الدُّمُوعَ ألماً وثورةً , ولنا أن نتصوَّر حالَ الشاعر سلمان داود قبل المشهد وقد أحاط به الأصدقاء من الأموات والإحياء  , والموتُ يَربضُ لهُ تحت هذا الوصف , فنراه يقول : –

تنهّد إبراهيم الخياط

وهو يرى دموعنا تغسل ركام قبره

وقف بيننا وهو يقول لا تحزنوا

أنا في علياء المعنى

وأنتم لا تعلمون

أنني استعد لاستقبال شاعر

عجن طين الوجع بخمر الألم

ليطلق ازدهارات المفعول به

وواوي الجماعة

وينسج للجميع بساط محبة

من شغاف قلبه

ارفعوا سلمان على اكتافكم

لفوه بالورد

وبقايا البلاد[6]

وأحياناً يرتفعُ الشَّاعر منذر عبد الحر  إلى مستوى الحدث المؤلم , فيأتي رثاؤهُ عاطفيَّاً ، فالشَّاعر يسجِّلُ مُضِيَّ صديقه داود سلمان في إظهار توجُّعِهُ ممَّا آلَ إليه حالُ فقده المفجع والمؤلم , وقد كثرت الحوادثِ وهواجسُ الهمِّ والأنين من بعده ، وهي علامةُ رحيله عن محبيه  , فالقدرُ قد قسَّم أرزَاءَهُ بيننا وليس بوسعِنَا ردُّه أو الاعتراض عليه سوى تحمُّل مشاقِّهِ وألمهِ , و أنَّكِ ياصديقي سوف تلتقي مع الشعراء وتلقي عليهم شعرك كما كنت تفعل ذلك في حياتك , فنراه يقول :-

لا أدري….

كيف يجري دجلة غدا

وكيف يفتح الصباح نوافذه

وكيف تنفض الأشجار غبار الليل

عن أغصانها

لتستعد لزقزقات جديدة

كيف تغدو بغداد

وسلمان ليس فيها؟

وقد يعدلُ الشاعرُ عن التَّأبينِ إلى التَّفجُّعِ على المرثي , فيلجأ إلى تعظيمِ الخطب, ويتبنَّى الإشادةَ بما أُثِر عن المرثي من صفاتٍ وميِّزات ؛ تبعاً لمنزلتهِ وقُربهِ من الشاعر منذر عبد الحر  , ومن ذلك قصيدته المعنونة ( إلى أين) ,إذ نستقرئ مشاعرَ الحزنِ والهمِّ التي أثارها رحيلُ الشاعر سلمان داود , ليستفهم الشاعر عن جدوى صمتِهِ أمام هذا الموقف الأليم , إذ كان مُحِبُّوا الشاعر يستمتعون بمُجالَستِه , ويشنِّفون أسماعَهم بأشعارِهِ وما فيها من تشبيهاتٍ وبيانٍ رائعٍ , وبفقدِهِ أصبحوا غرباء , فقد كان اليدُ التي تُمَدُّ لهم , وتُسعِفهم , فضلاً عن ذلك فقد كان المُتحدِّث بلسانهم إذ خبِرَ نواياهم وتطلعاتهم كلَّها, ويمكنُ أن تُعَدُّ العاطفةُ التي اتَّشحَ بها النَّصُّ في ضمن ما يُسمَّيها النُّقَّادُ ﺑ (عاطفة الوفاء)[7] إذ تعني عندهم عرفانَ الجَّميلِ وحفظ المودَّةِ التي كانت تربطُ الشاعرَ بالمرثيِّ , فالعاطفةُ الحقيقيةُ التي تُفجِّرُ ينبوعَ الرِّثاءِ الحق , إنَّما هي عاطفة الحزن , والأسى , والحرقة التي تستولي على الشَّاعر , فتذوبُ لها نفسُهُ شعراً , فيتَّشح بالسَّواد , وتبلِّلهُ دموعُ الأسى والحرمان , فنراه يقول :-

من يفتح باب (مكتب الإنسان) بعدك؟

من يقدم للمتسولين الصغار وجبات طعامهم

من في كل صباح

يرمي في الموج رسائل حب

تحمل فيض الطيب

ليغتسل به أصدقاؤك في الجنوب

إلى أين يلجأ صعاليك المدينة

وأنت غائب

قل لهم شيئا

أنهم ينتظرونك

لا يصدقون انك تلوح لهم[8]

بين الشاعر المبدع منذر عبد الحر التركيز إلى النَّص من زاويةٍ اجتماعيةٍ , ومدى تَعَالُقهِ مع الواقع , يكونُ التَّركيزُ على إظهارِ وظيفة النَّص الاجتماعيَّة ,والوقوف عليها على وَفق مفهوم الحياة, والممات , فضلاً عن ذلك فإنَّ هاجسَ الخوفِ من نقد الواقع وشعوره بعدم الرِّضا عنهُ يُحتِّمُ عليهِ سحب الواقع إلى قصيدته أو العكس , لتكونَ القصيدةُ انعكاساً موضِّحَاً للواقعَ المعيش , ومن ثَمَّ فهي مرآةٌ عاكسةٌ لمزايا ذلكَ المجتمع وسلبياتهِ , وهذا الأمرُ حَقَّقَ تلاحُماً بين ذات الشاعر, والنَّص من جهةٍ والموازنة بين واقعهِ والقيم النَّبيلة من جهةٍ أخرى , فَرصدت القصيدة الواقعَ , وعرَّتهُ بسبب الباطل والظلم بكُلِّ أنواعهِ واتجاهاتهِ , وغَدَت مرآةً وصوتاً للمسكوت عنهُ في ذلك الواقع من خلال موضوعة الرثاء وجه الشاعر منذر عبد الحر النقد اللاذع , فنراه يقول :-

بينما يهيل أحباؤك التراب عليك

إلى أين يا صديق الأوجاع

وشذى النقاء

إلى أين يا ربيب السلام

الخارج من الحروب بصمت جريح

إلى أين يا سلمان؟

إنَّ الشاعر المبدع منذر عبد الحر  في موضوع  الرِّثاء اتسَّم بأُفقَ التَّجديدِ الشعري , وفضاءاته الواسعة , بل التزم معنى الرِّثاءِ التجديدي, أمَّا صفاتُ الرثاء تميزت عنده بذكر فضائل الشاعر الراحل سلمان داود  ومنحه أبعاداً دلاليةً تَزيدُ من الإشادة به , وبمصادر ثقافتِه بين النَّاسِ , فضلاً عن ذلك فقد أكثرَ من معاني البُكاء والتَّأمُّل والحكمة التي تُصاحِبُ دلالةَ الرِّثاءِ.

المراجع: 

[1] ينظر فن الرثاء : د0 شوقي ضيف :7 0

[2] ينظر في رياض الشعر العربي  : عمر فاروق :191 0

[3] الأدب الجاهلي : د0 حسني عبد الجليل :191

[4] قصيدة إلى أين : منذر عبد الحر0

[5] ينظر الشعر العراقي أهدافه وخصائصه : د0 يوسف عز الدين :94 0

[6] م0ن : 95 0

[7] الذات والآخر في شعر جميل حيدر : علي حسن عبيد : 125 0

[8] دلالة الصورة الحسية : د0 صباح عباس :38 0

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى