كُنْ إيجابيا !

صبري الموجي| رئيس التحرير التنفيذي لجريدة (عالم الثقافة)

شاءت ظرُوفها التعسة أن تقف في عربة القطار المُنطلق من القاهرة إلي مدينة طنطا محطة نزولها، حيث لم تجد مكانا للجلوس؛ إذ إنه وقتُ عودة الموظفين وطلبة الجامعات إلي مواطنهم الأصلية. أخذ القطار يضيق بالركاب رويدا رويدا إلي أن صار عند انطلاقه أشبه بعُلبة (السردين) ليس فيه موضعٌ لقدم، وأضحي من استطاع  الوقوف علي رجليه داخل العربة من ذوي الأملاك يحسُده من وقف علي درج باب القطار المفتوح علي مصرعه يُحاذر السقوط المُفضي إلي الموت، وحيث إنها فتاة في ريعان الشباب، حباها الله جمالا يخطفُ الأبصار، التف حولها كلُ من دلف من عربة القطار؛ عساه أن ينعم بنظرة حانية أو كلمة تنسيه غصة الزحام الأشبه بيوم الحشر، ضاقت الفتاة ذرعا بازدحام العربة، وما استتبعه ذلك من نظرات فتاكة وأياد طائشة التطمت بها وبرر أصحابُها أن ذلك لم يكن عن قصد.

أبصرت عيناي ذلك المشهد عن قرب، حيث كنتُ أحد المحظوظين الذين ظفروا بمقعد للجلوس حتي محطة النزول، فراعني ما تعانيه تلك الفتاة من مضايقات تصبب لها وجهُها عرقا، وأرادت بسببها النزول قبل إقلاع القطار، ولكن هيهات لها أن تصل إلي الباب.

حدثتني نفسي أن أقوم لتجلس مكاني، فخانتني رجلاي مخافة ما ينتظرُني إذا أقدمت علي تلك الخطوة الجريئة من التطام والتحام وعَرَقٍ للركب،  وربما ( نشل حافظة النقود)، وكسر (نظارة القراءة) التي علقت بجيبي.

لم يتركني وخزُ ضميري أهنأ بالجلوس علي مقعدي الصُلب، إلا أنه إذا ما قورن بالوقوف ألينُ من ريش النعام ، فبلعتُ ( حبة شجاعة) وهممتُ واقفا تاركا مقعدي الذي لو شئتُ لأخذتُ عنه ( خلو رجل) من تلك الفتاة المسكينة، التي ثمنت صنيعي، وانبري لسانُها يلهج لي بالدعاء.

مشهدٌ كثيرا ما نراه إما في المواصلات العامة أو في طابور إحدي الجمعيات التعاونية، أو أمام مخبز أو مصلحة حكومية، حيث يتصارع الجميع للوصول إلي مأربه وقضاء مصلحته، دون الالتفات إلي ضعف امرأة أو براءة طفل أو أنين مريض ، أو توسلات عاجز، فصار لسان حال الكل : (أنا ومن بعدي الطوفان).

إننا أمةٌ يتنامي عددُها عاما بعد عام رغم ثبات الموارد، فصار ما كان يتنعم به الفردُ أمس ملكا للعشرات بل المئات اليوم.

وتعايشا مع تلك الأزمة، أزمة زيادة العدد وثبات الموارد فلابد لنا من القناعة والرضا، والتعاون علي البر والتقوي، وإغاثة الملهوف، ونصرة المحتاج ، ورحمة الضعفاء؛ لكيلا نصير سباعا ضارية يأكل القوي الضعيف، ويبطش ذو العز والسلطان بمن لا شوكة له ولا عزوةَ تحميه.

إن ديننا دينُ رحمة يدعو إلي التعاون ومكارم الأخلاق، ويرفض الفسوق والعصيان، وأي فسوق أشدُ من قهر صبي، وظلم امرأة، وغض الطرف عن استغاثة مُحتاج وأنين مكلوم، وأكل أموال الناس بالباطل ؟

أيُ ظلم أشد من تعطيل مصالح المواطنين، بحجة أن السيد المسئول (معه تليفون) يُناقش فيه مع حرمه المصون قضايا الساعة مثل : ماذا أعدت علي الغداء ؟ وهل جهزت الأسرةُ نفسها لحفل المساء وخلافه!

أيُ ظلم أشدُ من حبس أوراق الناس في الأدراج؛ انتظارا لمظروف محشو ببنكنوت مقابل تأدية الخدمة، وعدم تعطيل المصلحة ؟

أيُ ظلم أشد قُبحا من أن يدفع المرءُ الرشاوي – المُسماة زورا بالإكرامية – ليلتحق ابنُه بأفضل الكليات، ويُحرمُ ابنُ من لا يقدر علي دفع الرشاوي حتي ولو كان هو الأكفأ والأحق؟

أيُ ظلمٍ أشدُ من السلبية ورفع شعار ( الباب اللي يجي لك منه الريح سده واستريح)، وما يستتبعُ ذلك من صمت عن قول الحق ومُجابهة كل صور الفساد : سواء في العمل أو البيت أو الشارع أو المتجر وخلافه؛ مما يزيد معه اتساعُ الخرق علي الراقع فتضيع حقوق، ويُظلمُ أشخاصٌ وتفسدُ أمة كانت وستظل خير الأمم إذا ما حرص أفرادُها علي أن يكونوا  إيجابيين!    

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى