تفعيلة الرفض في ” مكابدات الحافي ” لـ” عبد الأمير خليل مراد “
بقلم: زياد جيوسي | “عمَّان 17 ايلول 2021”
ما أن وصلني ديوان شعر يحمل اسم “مكابدات الحافي“ من ابداعات الشاعر عبد الأمير خليل مراد، من العراق الذي يسكن مني القلب رغما عن كل الجراح حتى لفت نظري العنوان، فتذكرت أبيات من الشعر للشاعر السوداني إدريس جمَّاع مثلت المعاناة والتي قال فيها: “إنّ حظّي كدقيقٍ.. فوقَ شوكٍ نثروهُ/ ثمّ قالوا لحُفاةٍ.. يومَ ريح ٍ إجمعوهُ“، بلوحة غلاف للتشكيلي محمد علي جمعة تحمل في ثناياها الم العراق والحلم بالغد، وعلى الغلاف الأخير مقاطع من الديوان، والديوان من اصدارات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق جالت فيها روح الشاعر عبر 136 صفحة من القطع المتوسط وأربع عشرة قصيدة.
من البداية حيث الاهداء نشعر بأننا سنجول في بحر من الألم في الديوان، فالاهداء يبدأ بعبارة: “إلى عالمي المتخم بالمواجع والأحزان”، لينتهي الاهداء بعبارة: “إلى بشر الحافي الذي قذف مدرعته وهام في الشوارع وهو يصرخ.. أنا الحافي”، فشعرت مسبقا بالمعاناة التي يوجهنا لها الشاعر في لوحة الغلاف وفي اللوحات الداخلية وفي الاهداء، عبر قصائده المطولة والتي جُلتها أكثر من مرة.
الوطن والمعاناة والحلم والرفض هي محاور الشاعر وروحه والوطن العراق مسرح هذا الصراع، وهذه المحاور تظهر بوضوح في القصائد جميعها وفي العناوين التي اختارها للقصائد، وفي جولة سريعة بين جنبات الديوان كانت روحي تحلق في فضاء العراق وتتألم مع ألمه، فمن شرب من دجلة والفرات سنوات الدراسة وما بعدها لا يمكن للعراق أن يفارقه.
فالوطن يظهر في القصيدة الأولى من عنوان قصيدته “تهجدات في حضرة الذبيح” أينما جلنا بالديوان فالوطن مسرح لا نبتعد عنه، ولعل في القصيدة الثانية التي منحت الديوان اسمه نرى أن بشر الحافي هو العراق وهو الوطن، فالشاعر يهمس على لسانه: “أنا بشر الحافي، ياه.. ياه.. ياه.. كم، عايشت ملوكا ورعايا”، هذا الوطن الذي جرى تدميره وتخرييبه بعد عزة ورفعة فيهمس متألما: “أنا بشر الحافي، في السوق أقوم وأقعد، ودثاري أوزار بالية”، وتجول روحه في جنبات الوطن في نفس القصيدة بقوله: “وعلى نخلات البصرة، أو كوفان، وعناقيدي من فضة بابل، مبذولات في سكك العشارين”، وتتجلى المشاعر للوطن العراق في قصيدته “أنبئوني يا بناة العالم” بقوله: “آه يا مملكة الأشعار، يا قنديلا يوقد من لحمي، وربيعا يتبع ظلي، من كوفان إلى بابل”، وفي قصيدته “جواد سليم يعود من موته” يتألق الوطن بمساحاته وأمكنته والتجذر بالوطن: “بلادي دجلةٌ، وأنا فرات”، “بلادي بابل أو سومر، وأنا نشيد”، ويبرز التجذر بالوطن بالقول: “الأرض.. جلبابي”، وفي هذا المقطع المتميز بكلماته التعبيرية: “وأقنعتي نياحات ستورق في الأزقة، والمقابر والمقاهي.. إنني وطن، تفتق أنهرا من علقم.. دِفلى”، وأيضا في قصيدته “كتاب العبور” قال: “فخذوا قلبي اختصارا، ودعوا في شارع السعدون ما اختط، الكفن”، وفي نفس القصيدة كان الوطن بقوله: “يا بلاد النخل والنهرين والفادين، يا دوحا بدا من جنة”، ويبرز العراق بكل المه وحلمه متجليا في قصيدة: “من أحوال الحافي وأماليه”، وهذه القصيدة المطولة الملحمية تمتد على 46 صفحة من الديوان، وفيها يقول: “ما بين سوط القهر والأحلام، وجعي يطول وتنطفي أحلامي”
والمعاناة تظهر بالديوان من الشطرة الأولى في حين يقول: “لم اسأل عن هذا القلب المجروح، عن سبط يمشي مذبوحا”، ونرى المعاناة تتجلى بقوة في القصيدة الاولى التي أشرت لها أعلاه، فيقول الشاعر واصفا حالة المعاناة “هذي أيام حبلى بالأسرار الممهورة، بالخوف، وشقشقة الغرفات السرية”، وتتجلى المعاناة في قصيدة “مكابدات الحافي” بقوله: “أبكي.. وأصلي، وأصلي في كبدٍ، ونشيجي آهٍ.. نشيجي، انجيل ومصاحف، في معمعة الأحلاف”، وفي قصيدته “أنبئوني يا بناة العالم” يقول: “فأنا في مرفأ الستين أبكي، وأنوح”، وهذه المعاناة لم تتوقف عبر صفحات الديوان ففي قصيدته “جواد سليم يعود من موته” يبوح بذلك: “والليالي السود تعتقل الربيع بكل عام، نهارات بلا ومض”، وتبرز المعاناة بقوة في قصيدة: “من أحوال الحافي وأماليه” في قصيدة رائعة ومطولة وفيها من معاناة العراق الكثير من اولئك الذين نسوا وطنهم وباعوه بالدولار: “وتناسوا هذا القلب الموجوع بأنته، واكتالوا ضجرا وحنينا وجنونا، ومضوا في شغف البؤسِ، وصولاتِ الدولار”، وتبرز المعاناة أيضا في قصيدة: “أبوة” وفي قصيدة: “من تجليات الشابي الأخيرة”، وتجلت المعاناة في قصيدة “مرثية” وهي آخر قصائد الديوان بقوله: “لماذا تزدريني هذه الأكفان، لماذا كل أحلامي، تناهبها هتاف الموت”.
والحلم يظهر بالبداية أيضا بقول الشاعر: “في يده كون أبيض وحمامة، بوح وسلام”، وفي نفس القصيدة الأولى يكون الحلم بقول الشاعر: “تتهجد في فضوات الرحمن، دهورا، وتزاحم بالإصبع ذياك الهاطل، من سدرة آدم، أو مقل الأنوار النبوية”، وفي قصيدة “مكابدات الحافي” بقوله: “ها انذا أتملى ما حكت الأدهر، من سدرة أسلافي”، وفي قصيدته “أنبئوني يا بناة العالم” يكون الحلم واضحا رغم كل المعاناة والواقع المحيط فهو يهمس: “خلني في مركبي أشدو، واختط الفتوح”، ويقول ايضا: “خلني قيثارة في عرس طاغٍ”، ويقول أيضا: “خلني أصهل في كفني”، وهنا الرمزية بالغة التعبير، فالخيول الأصيلة هي التي لا تتوقف عن الصهيل حتى اللحظة الأخيرة، والحلم الآت يتجلى في قصيدته “جواد سليم يعود من موته” بالقول: “سأُولدُ من رماد النهرِ عنقاءً، تخضب عالمي الألوان والآمال، والأضداد، والرؤيا التي ارتجت مصائرها”، ويستمر الحلم في قصيدته “كتاب العبور” كان الحلم: “خاصر الشمس افتنانا، ومزامير تدل الأنبياء”، ويتجلى الحلم والاصرار عليه في قصيدته: “وجد” حين همست روحه: “مشى الطفل يعبث بالنجمة، الساحرةِ، مشى كذُبال السماء، وفي مقلتيه… يخط النهار مواجع حلم، تبدد كالغيمة العابرة”، وكذلك يبرز الحلم بقوة في قصيدة “التراب” بالقول: “يا نشيد الفجاءة.. أنى نريق من القلب، أحلامنا، ونعاند كالشمس أوهامنا، إن هذا التراب سيورق من شهقةٍ، لم تزل في أديم الشهادة مخبوءة، تَبذر الحلم أفياؤها مدنا، وتخط بأوجاعها فرس السبق..، كي تعتليها”،
والرفض يظهر ايضا في البداية بقوله: “كيف سأمحو بسؤالي من عاداك”، رفض الواقع الذي يحيط بالوطن يتجلى واضحا رغم كل المعاناة، فلا يرى غير الإستشهاد في مواجهة الواقع فيقول ايضا في القصيدة الأولى: “ها أنذ سبط ابي القاسم فاحملني، في سكك الجنة كي ألقاك”، وبعدها يقول: “لا ليس منا في التلاقي من جبن، قلوبنا من حجر يوم المحن”، وفي قصيدته “أنبئوني يا بناة العالم” يتجلى الرفض للواقع بقوله: “أنبئوني يا طغاة العالم ومريديه كيف أنام وأصحو، وأرى بنادقنا غافية في مشاجبها، بلا رصاصة أو زناد أهوج”، وفي قصيدته “جواد سليم يعود من موته” يعلن الرفض جليا بالقول: “على سرر المواجع.. بيرقي رفضي”.
ومن الملاحظ في جنبات الديوان قوة الكلمات والمعاني والرمزية القوية والابتعاد عن الرمزية المغرقة، وكان معجمه الشعري ملفت للنظر من خلال خروجه عن السهل والوصول للقوة بالكلمات وبدون تقعر باللغة والمصطلحات، ولجأ إلى جمالية الفكرة وأساليب التعبير عنها، فنرى أن الشاعر نسب نفسه كمواطن وابن للعراق للرسول الكريم عليه أطيب السلام ولآل البيت، فربط قداسة المكان حيث سالت دماء آل البيت، بقداسة الوطن في روح الشاعر واعتزازه بالعراق، فاستحضر آل البيت في المكان والوطن، فنجد الشطرات التالية في الديوان: “ها انذا سبط ابي القاسم”، “نحن بني هاشم أزمان تتلى”، وفي قصيدة “مرآة السندس” يستحضر ذكرى الحسين الشهيد ويسقطها على العراق الآن، وفي قصيدة “من أحوال الحافي وأماليه” يقول: “ونناجي فاطم أن قومي”.
كما ان المفاهيم الدينية لم تغب عنه فنراه يستخدم: “شآبيب الكوثر”، “تيجان الأسماء الحسنى”، “مقل الانوار النبوية”، “وأرى سبحاتي تتوضأ”، “بالنور الأعظم”، “سكك الجنة”، “كالقرآن على أرض الله”، “إذا زلزلت الأرض زلزالها”، “فأكلم عيسى في المهد صبيا”، “وأخاصر موسى عند تخوم الطور”، “وأكب على نعل أبو القاسم”، “حمامة نوح”، “أن ميدي يا ارضي وابتلعي”، “أراجيح الثقلين”، “يوسف وزليخا”، “آية التكبير”، “بئر يوسف”، “معراجي”، “جبلي أحد”، “زمن من عهد نوح، والسفينة”، “وأسبح في مكة والقدس”، “قصعة مريم”، “نجيمات سليمان”، “أكلتني الدنيا كأني يوسف”، فمنح ذلك الديوان رهبة الأحاسيس الدينية.
كما نلاحظ في الديوان مناشدة وتذكر واستحضار لرموز معروفة بين الأدب والشعر والسياسة والفلسفة، ففي قصيدة “مكابدات الحافي” يقول: “ضيفا يتهجى أول حرف، نيرودا.. أطفال السياب.. وابن الفارض وكُثير، والمجنون وأحمد”، وفي نفس النص يقول: “زريابا يحبو في جوقة”، ويقول ايضا: “وأدونيس الشرقي أبي”، “أنبئني يا سقراط عن المقتولين بسم”، أنبئني يا همنغواي عن الغرقى في أقبية البحر الملآن”، “أنبئني يا غسان كنفاني عن المغدورين، في المدن اللامرئية”، “أنبئني يا بوشكين”، “أنبئني يا بدر”، “أنبئني يا طاغور”، “أنبئني يا هرمس”، “أنبئني يا غاندي وجيفارا وكاستروا ويا ابا عمار متى أرى، الحرية الحمراء تتبرج في ساحات الإعدام، وتتفجر في ضمائرنا، كأزاهير النيل والفرات” وهذه المناداة لم تأتِ عبثا فهو من خلال هذا النداء يريد أن يعلن تفعيلة الرفض بعملية اسقاط واضحة للتاريخ على الواقع، وهذا الاسقاط نجده يتجلى في قصيدته “جواد سليم يعود من موته”، فهذا الفنان العملاق 1921-1961م والذي أبدع في جدارية الحرية في ساحة الحرية في قلب بغداد وشاركه بهذا العمل كلٌ من الفنان المعماري رفعت الجادرجي والفنان محمد غني حكمت، فنجده يقول في مقطع من القصيدة: “أنا جواد بن سليم، أهيء قامتي للريح والمنفى، واشعل في ضميري آية التكبير”، وفي قصيدة “من أحوال الحافي وأماليه” نجده يستحضر التاريخ بالقول: “ها انذا بشر جاذبت السيوطي النحوي، وقاسمت صِراري يونس والأعشى، وجلال الدين الرومي، ويوشع والخضر”، وفي مقطع آخر: “وسنابل من ذهب، تتأود في خرج الحلاج”، وفي مقطع لاحق يقول: “لم ازدد يا ابن بخارى والمسعودي، إلا تغريبا وعذابا”، ويقول أيضا: “أنا بشر الحافي، لا أشبه نرسيس ولا ميدوزا، لا أشبه نابليون ولا الحجاج”، “ومسلاتي أركسها حمورابي” وأيضا: “والمتنبي صار الرّفاء، والعرجي مجنونا بمضارب ليلى”، كما يستحضر الخنساء وغير ذلك من رموز التاريخ وكل في موقع رفع من قوة القصيد ولم يكن حشوا بلا معنى، وهذا ما نلمسه بقوة في قصيدة “من تجليات الشابي الأخيرة”، وكذلك يستحضر طرفة ابن العبد بقصيدة “طرفة يغادر دائرة الاحتمال”.
وكون الشعر كان وسيبقى مرآة العرب فهو من أجمل أصناف الأدب، ونلاحظ ان الشاعر في قصائده كان كمن يروي حكاية الوطن والتاريخ، فهو الرواي والمتحدث مستحضرا الشخصيات المختلفة عبر التاريخ، فكانت أشعاره صور جميلة ومؤثرة منقوشة كلوحات بالحروف حافلة بالأفكار والصور التي دارت في ذهن الشاعر وأحاسيسه سواء الصور البسيطة أو المركبة، وتشد القارئ بقوة للوقوف واعادة قراءة الفقرات والكلمات المستخدمة، فالأجمل من الشعر هو ما نقرأه خلف الحروف، وأبدع باستحضار الزمان في قصائده، فنقلنا عبر تاريخ طويل منذ عهد سومر وبابل، وحافظ على وحدة المكان وهو العراق الأشم فجعلنا نجول في مناطق مختلفة منه، وكان البناء الشعري متقن حفل بالمناجاة والحوار مع الشخصيات المستحضرة في النصوص، وكان موفقا في بدايات النصوص ووضعها الأولي وصولا للتأزم في الحدث حتى الوضع النهائي، فكانت قصائد الشاعر حافلة بالأبعاد الفكرية والدينية والاجتماعية، فتميزت القصائد بالتجدد والابتكار والعمق وخاصة باللغة والمعجم اللغوي المستخدم وهذا يحتاج دراسة خاصة، فالمصطلحات والكلمات ليس من السهل الوصول اليها، ورغم هذا الزخم حافظ على سلامة اللفظ وسلامة الأسلوب، فحافظ على وحدة الفكرة وسلامة اللغة وتقنيات الشعر، فلم أمتلك حين أنهيت القراءة إلا ان أصرخ: آه يا عراق.