نواقيس الخطر (١)

رضا راشد | الأزهر الشريف

والنواقيس جمع ناقوس؛ وهو أداة حديدية مجوفة من الداخل على شكل كوب كبير مقلوب مشدودة إلى الجدار بداخلها قضيب من معدن يحدث صوتا عند تحريكه بواسطة حبل أو سلسلة، وهو المرادف لجرس المدرسة اليدوي الذي كان يستعمل ولا يزال احيانا في تنبيه الطلاب: حضورا وانصرافا .

وصوت هذا الناقوس مزعج جدا، بحيث ينبه الوسنان، بل يوقظ النائم الذي يغط غطيط البكر شد خناقه، وينفي الطمأنينة عن المطمئن البال فيدعه ضجيع توتر وقلق واضطراب.

فإذا قيل :”دق فلان ناقوس الخطر “، فإنما هو مثل يضرب لمن ينبه الناس بعنف على خطر مهلك بات يتهددهم وهم عنه في غفلة ساهون وفي غيهم سادرون، فكأنه يستعين على شدة غفلتهم بهذا الصوت العنيف يصك به أسماعهم وينفي به الغفلة عن عقولهم وقلوبهم؛ ارتكابا لأخف الضررين؛ فانزعاجهم بهذا الصوت أخف وطأة مما ينتظرهم.

والذي يدق ناقوس الخطر في أمتنا اليوم إنما هو مقتف أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شبه نفسه بالنذير العريان في قوله : “إني انا النذير العريان “.

والنذير العريان هو المبالغ في النذارة، حمَله شدةُ الحرص على أن يخلع ثوبه الذي عليه ويلوي به: الحذرَ الحذرَ، والنجاءَ النجاءَ.

فكلاهما: (الذي يدق ناقوس الخطر والنذير العريان) منذرٌ قومَه ومحذرهم من شر ينتظرهم، لكن أولهما يعتمد على حاسة السمع، والثاني يعتمد على حاسة البصر، وكأن الفرق بينهما أن الذي يدق ناقوس الخطر إنما يحذر قومه من شرٍ واقعٍ بهم، ولكنهم لغفلتهم لا يشعرون به، وهو(أي المنذرهم بدق الناقوس) بينهم ليس بعيدا عنهم =أما النذير العريان فهو منذرٌ قومَه بشرٍ قريبٍ منهم، آتٍ عليهم، وهذا النذير بعيد عنهم، لكنه يخاف إن هو انتظر حتى يقدم على قومه أن يسبقه الشر والخطر إليهم؛ فهو يسابقه بالصعود على مكان عالٍ يلوّح لهم من فوقه بثوبه الذي يخلعه عن جسده؛ إشارة إلى عظيم الخطر الذي يتهددهم، وهو إنما استعان بالثوب يلوح لهم به من بعيد دون الصراخ مثلا، إذ البصر في الصحراء يمتد إلى مدى أبعد لما يمتد إليه الصوت، ولا سيما إذا ارتقى هذا النذير مكانا عاليا كجبل مثلا.

والناقوس أكثر إزعاجا؛ ولهذا أرى أن لكل مقاما لا يصلح له الآخر: فحيث كان الخطر قريبا من الناس، غير واقع بهم، كانوا إلى النذير العريان أشد حاجة، حتى يأخذوا حذرهم قبل أن يدهمهم؛ وحيث كان الخطر واقعا بهم، نازلا بساحتهم كانوا إلى دق ناقوس الخطر أكثر احتياجا؛ تنبيها لهم من غفلتهم وإزعاجا لهم من سباتهم.

لهذا؛ فما أحوج أبناء أمتنا اليوم لمن يدق ناقوس الخطر يصك به أسماعهم، تنبيها لهم على الأخطار المحدقة بهم، النازلة بساحتهم، وهو بهزلهم لاهون، وعنها غافلون، وبدنياهم منشغلون .

بل ما أحوجهم إلى نواقيس كثيرة تختلف أصواتها وتتنوع رناتها، لا إلى ناقوس واحد؛إذ الأخطار كثيرة والغفلة عنها شديدة؛ فقد بلغ عدونا منا كل مبلغ، واستحوذ على كل مناحي حياتنا، بل تولَّج إلى عقولنا وقلوبنا، وبات يعلم منا ما لا نعلمه من أنفسنا ، فصار بذلك متحكما في أفكارنا وعواطفنا،تحكم الفارس في فرسه أو تحكم القائد في سيارته، يشرّق بها أو يغرّب، يشئم(أي يتجه بها إلى جهة الشام) بها أو يعرق(اي يتجه بها إلى ناحية العراق)، فلا تملك إلا أن تستجيب لرغبته وتخضع لإرادته.

وفي هذا الشأن فإني أقتفي أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بالتلويح بالثوب كالنذير العريان، ولكن بدق ناقوس الخطر ، إذ الخطر واقع بنا نازل بأرضنا ولو كان قريبا منا لم ينزل بأرضنا بعدُ لكنت بالنذير العريان أولى مني بدق ناقوس الخطر.والله المستعان.

(ملحوظة)
كان مقام الاحتفال بالنصر اليوم يقتضي منى مقالا غير هذا المقال،ولكني كنت أعددت هذه المادة قبل هذه الهدنة، ثم إن ما كتبته في هذه المقالات إنما هو سبيل النصر الدائم لا النصر المؤقت.
(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى