لماذا تكتب؟

سهيل كيوان | فلسطين

للفنان الفرنسي إميل فيرنون

لماذا تكتب؟ كثيرًا ما يوجَّهُ هذا السؤال إلى الكاتب، قد يكون السائل صحفيًا ويكرِّرُ السُّؤال دون أن يهتم بالإجابة، فهو أداة نقل لما يقول الكاتب، دون الدُّخول في عمق الإجابة، عادة يريد جملة أو قولاً يعتبره جاذبًا للمتلقي! وقد يكون السائل دارسًا للأدب، والإجابة عليه جزءٌ من دراسته، لهذا يهتم بنقل الإجابة وملاءمتها لموضوع الدراسة، قد يكون اجتماعيًا أو سياسيًا أو أدبيًا، وهناك من يسأل من أجل المعرفة الخالصة، يريد أن يعرف ويهمه بالفعل لماذا يكتب الكاتب، وما الذي تقدمه له الكتابة!

هذا الصنف الأخير يُدرك سؤاله جيِّدًا، ولهذا فهو يأخذ الإجابة بجدِّية ويتمعن فيها، ويربطها في معنى الحياة ككل، كأن نسأل السؤال نفسه، لماذا وُلدنا؟ ما معنى وجودنا في هذا الكون؟

بهذا السؤال، توجَّهت إليَّ الدكتورة الباحثة جهينة خطيب ضمن دراستها، لماذا تكتب؟

الإجابة ليست سهلة، وليست جاهزة في ذهني وتفكيري، وبجملة أستطيع القول بأنني أكتب كي أعيش، ولكن كيف أترجم هذه الإجابة المكثّفة، فما هو المقصود بالعيش؟ حسنًا كي أجيب أسأل نفسي، ماذا لو لم أكن كاتبًا؟

بعد أكثر من ثلاثة عقود مع الورق والحبر ثم الكمبيوتر  وطباعة الأحرف ونشر حوالي عشرين كتابًا، ومئات المقالات السياسية والاجتماعية، بتُّ عاجزًا عن تخيُّل نهج حياتي من غير الكتابة.

لأنني سأكون شخصًا مختلفًا تمامًا عن هذا الذي يعيش  في قميصي الآن، سأكون غيري من دون الكتابة، لأن الكتابة تحضُّ على القراءة كذلك، فلا كاتب بلا قراءة، والقراءة والكتابة تجعلك مُتغيرًا في كل بضع سنوات عن ذاك الذي كُنته.

الكتابة أنقذتني من السُّؤال عن جدوى حياتي، لماذا أحيا أصلاً؟ وما المغزى من الحياة؟

كونك كاتبًا يمنحك أفضلية في القدرة على التعبير عن نفسِك، وعن ما يجولُ في خاطرك، فجميع الناس يفكِّرون في مواقف من قضايا كثيرة، قضايا يومية وعامة وخاصة، سياسية واجتماعية وفكرية وجمالية وفلسفية ودينية وغيرها، ولكن مساحتهم في التعبير عن أفكارهم تبقى محدودة بينهم وبين أنفسهم، أو مع أسرهم وأصدقائهم، وربما على جدار في الفيسبوك، بينما أنت ككاتب تستطيع أن تعبر عن رأيك وأن  تنشره وأن توثِّقَه، في منابر قد يقرأها الآلاف، ولدى بعض الكتاب قد يقرأهم ملايين، وهكذا يشركون أعدادًا كبيرة من الناس في أفكارهم.

هذا يعني أن الكاتب يسهم مع أولئك الذين يشكّلون صورة مجتمعهم، وليسوا هامشيين، أي أنَّ لدى الكاتب فرصة في محاولة نحت صورة المجتمع الذي يعيش فيه على الشكل الذي يتمناه، قد يفشل وقد ينجح بفكرته، ولكنه حتمًا سيكون راضيًا عن نفسه في كل حال لأنه حاول.

أكتب كي أشعر بأن أيامي وسني عمري لا تذهب هباء، وأرغب في مزيد من العيش كي أكتب المزيد، ها أنا أكتب وأنتج أدبًا أستمتع به، وقد يستمتع به كثيرون.

أكتب لأنَّ هناك من يحبُّ أن يقرأني، وقد يُعقِّب على ما أكتب، ويقول بأنني عبَّرت عن ما يجول في خاطره، وقد يذكِّرني بما كتبتُ ولو بعد سنين.

أكتب لأن الإبحار بين الكلمات والأفكار لا يحتاج إلى شهادة أكاديمية، ولا إلى واسطة لولوج هذا العالم، إنه يحتاج الموهبة والاجتهاد والإصرار.

أكتب لأنني أفرح بما أكتب مثلما يفرح الفلاح بثمار أشجاره.

لو كنت موسيقيًا لانشغلت بين المقامات وتمتعت ومتَّعت غيري، بما أعزف أو أؤلف من ألحان، ولكنني لست موسيقيًا، ولهذا أكتب أحيانًا كما لو كانت أعزف لحنًا ما.

أكتب لأنني لست رسامًا بالألوان، فأرسمُ لوحتي بالكلمات.

أكتب لأنني لست لاعب كرة قدم في دوري ممتاز، ولكن قد أسجِّلُّ هدفًا جميلاً لدى القارئ، في قصة أو مقالة أو رواية أو جُملة مؤثّرة.

أرسل بعض كتاباتي لمن أحبُّهم ويحبُّونني، وأرسل أحيانًا لمن يكرهونني كي أغيظَهم..

أكتب لأنه لم يتح لي بأن أكون ممثلاً مسرحيًا أو سينمائيًا، أحب عالم السينما والمسرح

وعوَّضت هذا بكتابة مسرحيات، بعضُها عُرض على الخشبة مئات المرّات.

أكتب لأن الكتابة ثروة عوَّضتي عن الكثير من المال، وسترت ثغرات كبيرة من النقص في شخصيتي، في الكتابة أشعر بأنني أتكامل وأرضى عن نفسي.

الكتابة ثروة الفقراء، فهناك من يتباهون بوظائفهم ورواتبهم أو في نوع سياراتهم وببيوتهم الكبيرة، أنا أتباهى بقصَّتي وروايتي ومقالتي، وأعتبرها ثروتي.

في الكتابة أكتشفُ نفسي وأعماقي التي من الصَّعب أن أهتدي إليها من غير الكتابة.

في الكتابة أنتقم ممن أساؤوا إليَّ، أعاقبهم في الكتابة، كذلك أمنح الحب كله لمن أحببتهم وأحبُّوني.

في الكتابة أسعدتُ أمِّي ووالدي اللذين كانا يفرحان عند رؤية قصتي أو مقالتي في صحيفة، رغم أمِّيَة والدتي، إلا أنها كانت تفرح لرؤية صورتي في مجلة أو صحيفة.

كان والداي يفرحان لأن شخصًا غريبًا “يبدو أنه كاتب”  جاء وسأل عنك…

أشعر بسعادة لا توصف عندما أقف أمام طلاب مدارس وأحكي لهم قصَّتي..

الكتابة ملأتْ فراغًا كبيرًا في حياتي، لا أعرف ماذا كنت سأفعل في هذا الفراغ لولا الكتابة التي لا يعوِّض متعتها سوى السَّفر، والسَّفر يحتاج إلى إمكانيات كبيرة.

الكتابة أنقذتني من الأرَق، فعندما تلسعني وسادتي، أستغل الوقت للكتابة أو للقراءة.

الكتابة عرَّفتني على أناس جميلين ومهمِّين وأصحاب  أفكار ومواقف، كذلك كشفت عن أناس تافهين مغلَّفين بقشورهم.

في الكتابة أسهِمُ ولو بكلمة في معركة شعبي وأمَّتي لأجل الحرية.

لا أملك سلاحًا في مواجهة الحياة أفضل من الكتابة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى