الكتابة الشعرية وشعرية الكتابة.. “صيف أسمر” للشاعر عمار المسعودي
أ.م.د.سعيد حميد كاظم الوناس
ناقد أكاديمي عراقيّ
لا يخفى فإنَّ الشعر عند عمار المسعودي مغامرة انطولوجية يدخل من خلالها عالم متعدّد الأبعاد يحضر فيه سؤال الذات والكتابة وصولًا إلى صورة ورؤية ومعنى عبر أداتي:
_ الحدس الشعري الذي يمتلكه لبلوغ رؤيته.
_ الشك لخلخلة اليقين للوصول إلى المبتغى الشعريّ.
برؤية تعمل على صناعة توتر بين الذات والعالم، والأنا والآخر، وبطريقة لا تركن لواقع الأشياء بل تعمل على خرق الجدار الذي يحول دون بلوغ الرؤيا. ولعلّ المطّلع على شعر عمار بعمقٍ ووعي يلحظ أن الشاعر يوظّف أدبيته في إنتاج رؤية تفكك الأشياء ثم يعيد تشكيلها بعدما يسعى إلى المحافظة على تشابك الدلالات المنفتحة ذات الإمكانيات التأويلية لبلورة صوت شعريٌ مختلف يكرّس من خلاله رؤيته الشعريّة نحو مفتتح ذات علاقة نوعيّة تنفتح على مختلف أشكال القراءة اللفظية والدلالية؛ لهذا يمكن إعادة الجملة الشعرية في خطابه الشعريّ الذي اتّسم يعمّق التخييل الشعري.
كذلك لا يخفى أنّ إجراءً كهذا تكون بنية الوعي فيه موسومةً بسحر الكتابة وإطالة أفق التلقي بالمزيد من المتعة لا سيما أن خطاب الشاعر ينحو بكتابة ذات كثافة ترميزية صانعة للتعدّد، منزاحة نحو الاختلاف، محافظة على مسافة التوتر، ذلك الحيز الذي يوائم بين القارئ نحو استنباط المعنى أو معنى اللغة أو ما يقول به النص، مازجاً البنيات التركيبية والتأويلات الدلالية ليكون المعنى ناتج العملية التأويلية الكاشفة عن تعدًد القراءات وثراء المادة الدلالية عبر مزاوجتها في سياقات جديدة نحو التجانس واللا تجانس.
ويمضي بنا القول إلى أنّ المتلقي هو من يؤسس للمعنى فإن ذلك موجودًا في بنية النص، ومتشكّلة ضمنًا في قراءته، لهذا فقد أشار النص إلى طبيعته الرمزية الدالة بدءًا من ثريا النص وهو العنوان ومرورًا بالعنوانات الداخلية وانتهاءً بالنص نفسه وهو ينطوي على مجموعة سمات مؤكدة ترسم ماهيته.
وبهذه الخطوات المتوالية تكتسي الكلمات سمرتها فتكتسب شعريتها المرتكزة على البوح والسؤال(إن لم تكن صفتي التي في المعنى فلا عتاب لي معك.. أنا الذي امنحك أسرار الثبات وأسرار الحركات وأدعوك فتقبل حتى أمل من إقبالك ثم أترجى دفعك في قواربي التي في الريح المؤاتية فتبتعد حتى اشتاقك ولا أجدك.. تكون في البساتين وهذا في صميم أمري عليك ثم آتي ولا أجدك مزهرًا ولا مثمرًا ولا متصديًا لريح ولا مانعًا لعداوة شمس ولا مانحًا أملًا لمحتاجيك في إيفاء بفيء، فهل انفي صفة الأشجار عنك وصفة الثبات التي في الفصول وصفة المسافة ومنهج الفصول؟)
تلك الكلمات التي ساقت لنا معانيها المتعدّدة تحمل في طياتها دعوةً لوعي المشاركة نحو تأويل يكون أساس العلاقة بين الكائن والكينونة، وكما يؤكد (غادامير) فاللغة تصبح دليلاً للفهم وعملاً له كما كانت عند (هيدغر) وطناً للكينونة ، بينما يرى (امبرتو ايكو) أنّ النص آلة كسولة يجب أن تستعيد نشاطها بفعل القارئ.
وهنا يُقيم الشاعر اتّساقًا بين مرادفات عديدة نابعة من الاختلاف، كما يدعو إلى الانسجام نحو جهة العلاقات الخفية التي تهيمن على واقع نصّه في لغة دالة على الكينونة.. ولعل رؤية (نيتشه) حين يقول (إن ما يهمنا أساسًا هو معرفة الكيفية التي تسمى بها الأشياء لا معرفة ماهيتها)، وبهذا ثمة تعالقات تتشكّل، أفقية على مستوى (المدونة)، وأخرى عمودية على مستوى (النصوص) نفسها، إذ في الأولى تعمل النصوص المتآلفة بنسق مضمر عميق على صناعة خطاب التجربة العام، وهي رؤية تُرشّح ائتلاف المعنى مع المعنى على وفق ما يراه الحموي في خزانة الأدب وغاية الأرب حين عرّج على هذا الأمر بالقول ((هو أن يشتمل الكلام على معنى معه أمران،أحدهما ملائم والآخر بخلافه،فيقرنه بالملائم)) وفي الأخرى تتم فسح المجال لفضاء أكثر خصوصيةً عبر تعالقات تركيبية ودلالية يتحركان بشكلٍ عمودي وآخر أفقي ، وبمجموعهما تتشكّل الكلمات لتسجّل هُويتها((كلما تتلبسين الأشجار يبدو قميصك أكثر ظلالًا وأكثر متاهات كنت تهيئينها فخاخًا مخادعة تمتهن ضياعي لذا سأكون يومها لا قريباً ولا بعيداً لا أعرفك رغم هذه الصفات ولا تعرفينني.
تباركين سمرتي في إعلان مضبب يشير لسلطتك المؤشرة بالأزرق مرةً إلى السماء تشير ومرةً إلى البحر يظهر ذلك على نفس المائدة من اللغة ومن المطر.
لا بدَّ من عطري عليك أنا الغابة وإمكانية الوجود بهذا الضوع وبهذا الاختفاء.
دعينا نكتب مجاميع هذه الرسائل التي تدار بيننا بينما لا تعنيني ولا اعنيك)).
وهنا يلاحق الشاعر تلك الرؤية بالغور في ملامسة الأبعاد المتوارية في أقاصي المعاني للإفصاح عن رؤيته الشعر وشعرية الرؤيا.