على هامش ذكرى استشهاد الفتى الفلسطيني محمد الدرة
محمد المحسن | تونس
نَم “هانئا” أيّها-الصبي-الشهيد..فدمك لن يذهب هدرا
“وفلسطين الرحيمة لا ترحم السفهاء..ومهما الرّصاص يجزّ رقابا.. يظلّ على شفاه الفلسطينيين الغناء..”(مظفر النواب-بتصرف طفيف)
“..وسألت عن شجر قديم،كان يكتنف الطريق إلى التلال/وبحثت عن-القدس وغزة-دون جدوى/وانتبهت إلى رماد نازل من جمرة الشمس التي كانت تميل إلى الزوال..”(عن الشاعر الكبير عبد المعطي حجازي-بتصرف طفيف)
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ الفلسطينيين وحدهم يستطيعون أن يتحدثوا عن أمل ممكن ينبجس من دفقات الدّم ووضوح الموت.المقاومة عندهم تعني الفعل الذي لا يقف عند حدود الكلام والنوايا،وإنّما هي فعل وجود يصرخ أمام كل العالم بأنّ الإستعمار غير مقبول وبأنّ الحرية والسيادة مبدآن لا يمكن التخلي عنهما مهما كانت سطوة –بني صهيون-وخيانة- الإمبريالية الأمريكية-وعماء الدول الكبرى المتفرّجة على قوّات جيش الإحتلال الصهيوني وهي تستعرض عضلاتها على -شقيقتنا فلسطين-الصامدة في وجه الرياح السموم-..
أكتفي بأن أتابع المشهد.أنام وأصحو لأحصي عدد المستشهدين،أتابع مواكب الدّفن،وأسترق السّمع لصراخ الثكالى وهو يخترق سجوف الصمت العربي..
من أيّ موقع،إذن، أتكلّم ويكون لكلامي معنى أو ثقل ؟
محمد جمال الدرة:أوقعتك القافلة سهوا عنك،سهوا عنّا ومضيت تحت لعلعة الرصاص الأعمى دون وداع،فحين إكتفى العالم بالتفرّج على الدّم الفلسطيني مراقا وعلى الجنائز تخبّ كلّ يوم في مشهد قياميّ مروّع بإتجاه المقابر..
ولكن..الفتيان الأنقياء يولدون مصادفة في الزمن الخطأ،ويرحلون كومضة في الفجر،كنقطة دم،ثم يومضون في الليل كشهاب على عتبات البحر..
ماذا تبقّى؟
إستنكارات تذروها الرّياح زبدا وطواحين ريح..دبابات وقتلة مأجورون..عساكر..نباح وتفجير..جنائز تسير خببا بإتجاه المدافن..بيوت فلسطينية يجتاحها النّوح..قلوب يداهمها الوجع كاسرا.ثكل ودمع ولا عزاء.. وغيوم رمادية في سماء فلسطين..
شهيدنا الفذ:منذ رحيلك وأنا أحاول مجاهدا تطويع اللغة،ووضعها في سياقها الموازي للصدمة..للحدث الجلل..إننّي مواجه بهذا الإستعصاء،بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية،أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق.. ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما هبّت نسمة من رام الله الجريحة..
هي ذي الذكرى المؤلمة لرحيلك.مشهد الإستشهاد كان مهيبا مروّعا:فتى يصرخ تحت لعلعة الرصاص..شيء في قاع الرّوح يتفتّت..دمع حبيس يدمي أوردة القلب..قلوب تطفح بأسى مهلك صامت مبيد..صبي يافع يغتال قي حضن أبيه برصاص حفاة الضمير وتتناقل الفضائيات مشهد إعدامه..هكذا كان-موتك- فرجويا متوحّشا بدائيا ساديّا ضاريا عاتيا فاجعا..هو ذا القتل على مرأى من الدنيا والعرب..
بلادنا العربية لم تصب بقشعريرة ولا بإندهاش.إنّها”تأكل”بنيها.
ماذا تعني كلمات أو مفردات:منكوب أو مفجوع أو مدمّى أو منكسر؟..لا شيء سوى الفراغ الذي كنت تملأه فيما مضى.يتسع بك ويضاء بالبهاء الإنساني والغنى الروحي الحزين جراء فساد العالم وخرابه..
الطفولة الغذّة والصرخة الإحتجاجية التي تخترق في عنفوانها سجوف الصّمت،وتواجه بشموخ الإنحدار الرعوي ووحشية -القاتل المتوحّش-..
الآن بعد رحيلك-القَدَري – بسنوات طوال أعيد النظر في مفاهيم كثيرة،ربما كانت بالأمس قناعات راسخة،الآن يبدو المشهد الفلسطيني كأنّه مهزلة وجودية مفرغة من أي معنى سوى الدّم والدموع..
أيّها الفتى الرّمز:لقد احتمى إسمك بالوجدان العربي حزنا صامتا عميقا سنظلّ نتوارثه جيلا بعد جيل..ونحلم بولادة فتى رمز في حجم شموخك يكبر ثم يأتي منقذا ومخلصا..هذا الحلم ما يفتأ يعاود الظهور في كلّ مرّة تصبح فيه الكرامة العربية مجرّد ذكرى،وتصبح الشعوب العربية مثل الهوام لا أمل ولا فرح ولا نسمة تهبّ من غزة..وطوبى للحزانى لأنّهم عند الله يتعزّون.
هي ذي فلسطين إذن.هي ذي -عاصمة الشهداء-وقد حاصرها الليل.
عاصمة غدر بها الزمان.وللفلسطيني أن يدفع الثمن دما ودموعا.ولنا نحن-الواقفين على شفا الهاوية-أن نسمّي ذلك-بطولة-! كي ندرأ الوجع ونتخفّف من تأنيب الضمير..بل علينا أن “نبتهج”بالنظام العالمي الجديد صانع المعجزات.وكافر كلّ من يردّد قول المسيح ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
إبني- الشهيد:الزّمان الغض،المضاء بشموس النصر والتحدي..الزمان المفعم بإشراقات الآتي الجليل،ما قبل إدراك الخديعة،بغتة الصدمة وضربة الجلاّد..
الكون الحزين يرثيك.فرحة هي النوارس بمغادرتك عالم البشر إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين..أنت الآن في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق،والتردّي إلى مسوخية ما قبل الحيوان.هل كان الحمام الفلسطيني يعبّر بهديله عن رغبته في اختطافك إلى الفضاءات النقية لتكون واحدا من –قبيلته-،بعيدا عن الأرض الموبوءة بالإنسان الذي تحوّل إلى وحش ينتشي بنهش الجثث،قاتل للحمام والبشر،معيدا سيرة أجداده القدامى منذ قابيل وهابيل حتى الآن؟
نائم هناك على التخوم الأبدية،وروحك تعلو في الضياء الأثيري،طائرا أو سمكة أو سحابة أو لحنا في موسيقى.لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض.
في الزمان الحُلمي،كما في رؤيا سريالية،سأحملك على محفة من الريحان،بعد تطهيرك بمياه الوديان،من مصبات الأنهار والمنحدرات الصخرية بإتجاه البحر..سيسألني العابرون :إلى أين؟
في السماء نجمة أهتدي بها.أعرفها.تشير دوما إلى القدس.أنت أشرت إليها ذات غسق وهي الآن فوق-غزة ورام الله-تضيئهما بلمعانها المميز عن بقية الكواكب.وهي تشير كذلك إلى المرقد والمغيب فوق أفق البحر في أواخر المساءات.أحملك نحوها لتغطيك وتحميك بنورها الأسطوري لتدخل في ذرّاتها وخلودها الضوئي..
قبل هذا الإحتفال الأخير سأطوف بك حول فلسطين التي احتضنت طفولتك،معقل الرجال،حيث يرثيك أهلك و-مريدوك- بدمع حارق يحزّ شغاف القلب..
يسألني العابرون أو أسأل نفسي:هل محاولة إستعادة نبض الحياة الماضية يخفّف من وطأة صدمة الموت؟..لا أعرف شيئا..
حين يأتي المساء الرّباني سننلتئم تحت خيمة عربية.نشعل النيران في فجوات الصخور اتقاء للرّيح،ونبدأ الإحتفال في لحظة بزوغ القمر فوق الهضاب الفلسطينية.
أما أنتم -ياسادتي الكرماء-:إذا رأيتم –الفتى الفلسطيني-مسجى فوق سرير الغمام فلا توقظوه،إسألوا الصاعقة التي شقّت الصخرة إلى نصفين لا يلتحمان.
إذا رأيتم-الشهيد الفلسطيني محمد جمال الدرة-نائما في الصمت الأبدي فلا تعكرّوا سكينته بالكلمات.
اسكبوا دمعة سخيّة على جبينه الوضّاء ،دمعة في لون اللؤلؤ،واكتموا الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح..
أيّها الشهيد الشامخ: الإمام علي بن أبي طالب لم يمت !..ما زال يجوب الأرض على صهوة فرس أبيض كي يطهّرها من دنس الفاسدين وشذّاذ الآفاق..لقد قُتل وهو يصلي صلاة الفجر،قُتل غيلة.وكان أن بكاه المسلمون بدموع حارقة والدنيا أصابها رجف وسُمع في الآفاق كلّها نوح ونحيب..و أنت أيضا، قتلوك ،غيلة،قتلوك وأنت تحتمي بأبيك وترنو ببصرك إلى فلسطين وهي مضرّجة بالمؤامرات،الدسائس،الشرور والدّم المراق..لكنّك ستظلّ وصمة عار على جباههم..لعنة أبدية تلاحق بسخطها الغزاة ومن ورائهم-اليانكي-وأتباعه..وها أنّي ٍأراك على فرس من أثير معجون بالنور.تطارد من أعدموك بدم بارد ولن تترجّل إلا يوم ينتصب الحقّ شامخا،يخرّ الباطل صريعا..وينبلج الصبح على فلسطين.