النقد الجمالي للصور الشعرية في (الفيس بوك )
ثناء حاج صالح| ألمانيا
مقدمة
في النقد الجمالي للشعر تشترك قدرات الإدراك الحسية للناقد(الحواس)، مع العاطفة أوالميول، والفكر، ومستوى الخبرة في القراءة والتحليل، في قراءة المنتج الإبداعي وتحليله. لذا تُعَد (الذاتية) من خصائص الحكم المهمَّة في النقد الجمالي، والتي لا يمكن التخلص منها، أو تنحيتها؛ كونها تمثُّل الذائقة الشخصية للناقد.كما هو الأمر في الوقت نفسه مع (الموضوعية) التي تستمد من خصائص الموضوع الأسلوبية أدلة وبراهين تؤيد الحكم النقدي الجمالي المعطى.
وبما أن الحكم النقدي الجمالي لا يمكن أن يخلو من الذاتية، فإن من أهم شروط شخصية الناقد أن يكون قادراً على تمثُّل الحالة الوجدانية للشاعر أو للناص عموما ، في نصه؛ لأن هذا الشرط يؤكد قدرته على فهم النص فهماً صحيحا، ودون فهم النص يفقد الناقد أهليته لتحليله، ويتحوّل إلى قارئ متلقٍ عادي لا يمثل حكمه إلا حكما انطباعيا. ولا يمكن ردّ حكمه، أو الاعتراض عليه لأنها تجربة ذاتية أحادية الاتجاه.
لأن الناقد الذي لا يستطيع تمثيل جهة الشاعر سيقبع في جهة المتلقي فقط ولا يبرحها، وبالتالي فإنه يعجز عن إيضاح المقاصد والدلالات الخفيّة التي تحتاج إلى تقمّص دور الشاعر واستيعاب تفاصيل ومتعلّقات وجهة نظره .
مصطلح (الصورة الشعرية)
مصطلح (الصورة الشعرية) يُعدُ من أعقد وأصعب المفاهيم الأدبية تعريفا. ونجد له عددا كبيرا من التعاريف التي قد تتوافق وتتقاطع في بعض أفكارها، أو تتعارض وتختلف في إصرارها على استحضار عنصر معين دون آخر في تكوين الصورة الشعرية .
وأجدني أميل إلى ما يراه عبد القاهر الجرجاني في فهمه وتعريفه للصورة الشعرية . وهي عنده: تَمثُّلٌ وقياسٌ لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا.
فالتمثيل الحسي (وخصوصا البصري) في رأيي هوأساس عمليات التشكيل والتجسيد، التي تتيح لنا وصف المحتوى المعنوي للتركيب اللغوي بأنه صورة شعرية .
وأما تمثيل المعنى تمثيلا ذهنيا مجردا، فهو حتى وإن اعتمد على التشبيه والمماثلة بين المعاني، وحتى إن كان قابلا لتقريب المعنى إلى الإدراك (كحالة تمثيلية مشابهة)، إلا أنه (من وجهة نظري) أقل جدارة بالوصف (بالصورة)؛ لأن الصورة ينبغي أن تكون قابلة للتصور والتخيُّل كما لو كانت واقعا. وهذا لا يتأتى حقيقة إلا مع التمثيل الحسي، الذي تكون فيه عناصر بناء الصورة حسية فيزيائية مثل المادة والشكل واللون والصوت والضوء والحركة….إلخ. مع الأخذ بعين الاعتبار شكل وطبيعة الانزياح دلاليا أوتركيبيا .
لذلك فإنني لن أمر في هذه النصوص بالتحليل إلا على التراكيب اللغوية التي تتضمن صورا شعرية حسية. وهذا يعني أنها قراءات انتقائية.وقبل أن أخوض في تطبيق التحليل الجمالي للصور الشعرية، أحبُّ أن أشير إلى أمرين أساسيين:
الأول: أن تعريف أو مفهوم الصورة الشعرية يقتصر (من وجهة نظري) فقط على ما يأتي من صور بيانية جميلة في الشعر الموزون، الذي يعتمد له إيقاعاً خارجياً ذا ضوابط وقواعد.
هذا لكي يتاح لنا استثناء الصور البيانية الجميلة، والتي قد تعجّ بها نصوص النثر الفني،والتي لا ينبغي تسميتها بالصور الشعرية؛لأن النص الذي يحتويها لا يستوفي شروط تسميته بالشعر، من حيث الإيقاع الخارجي.
الثاني: أن النسيج الفني الذي يشمل السياق الذي تُقَدَم فيه الصور الشعرية، والعلاقات البيانية والبلاغية التي تربط بين أجزاء الصورة الشعرية، تُعتبر (من وجهة نظري) أساس القراءة والتحليل الجماليين، ولها دور رئيس في الحكم النقدي الجمالي. فلا يمكننا فصل صورة شعرية عن سياقها، أو عن روابطها مع العناصرالأسلوبية الأخرى فنيا وبنيويا في النص، حتى ولو بدا المعنى كاملا في بيت واحد يحتويها.
وحتى لو كان بإمكاننا الاستغناء عن تلك العناصر الأسلوبية مع الاحتفاظ بالمعنى المراد. لأن هدف القراءة الجمالية لا يتحقق فقط من خلال فهم المعنى المراد في بيت أو بيتين أو بضعة أسطر. وإنما هو في النهاية متعة ولذة وجدانية تمثل حصيلة شاملة لكل ما كان له مساهمة في إحداث وخلق هذه المتعة من عناصر قد يبقى بعضها غامضا، وقد تعجز لغة الناقد عن تصويره؛ لأنه يتعلق بانفعالات ذاتية غامضة.
في القصيدة الخطابية (لكيْ لا) للشاعر هشام باشا يسيطر السرد الشعري، في تأسيس وتحديد هيكل الفضاء الفني للقصيدة، زمانيا ومكانيا. فتنفتح القصيدة أمام القارئ كعالَم متعدد الأبعاد والمحاور (الأنساق ).
فالمكان هو أرض اليمن، والحدث يدور حول معاناة إنسانية مستمرة، ومقاومة جبّارة للموت والهلاك، في حرب لا تهدأ ولا ترحم. والزمان يتجلى برؤيا مستقبلية للمصير، تنتشل الأمل والتفاؤل من روح الإصرار على النهوض.
ويتعامل هذا السرد مع أزمنة الحدث في أبعادها الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل) لكي يستنفر طاقات الشعب اليمني، ويحثُّه على النهوض من خلال صيغ الأمر المكررة في أفعال الأمر والطلب والنهي (لا تبتئس، لا تلتفت، تماسك، تأفف، ظلّ،…).
أما الزمن الحاضر أو المضارع فقد استخدمه الشاعر لوصف الواقع الآني، والتفاعل معه عبر ردود أفعال يجب أن تصل إلى المخاطَب، لتحذره أو تبين له ما يجب إبانته.
ولهذا النمط من الأفعال ينبغي أن ينتمي الفعل المضارع المحذوف من عنوان القصيدة (لكي لا…) فهو يحمل نوعا من التوصية والتحذير والإبانة. ويمكنك بعد لا النافية فيه أن تضع في مكان النقاط أيّ فعل مضارع يعبر عن أحد احتمالات أشكال الهزيمة .
النسيج الفني للقصيدة من حيث تشكيل الصور الشعرية وغرسها في مكانها الملائم، جاء مشفوعا ومغمورا باتساع الرؤيا وعمقها مع غزارة في الزخم العاطفي. فاتسعت مساحات القصيدة، وتمددت،وانحنى نسيجها الزمكاني لتحتويالشعر، ذلك الاحتواء الذي يتعهد رعاية مخيّلة الصورة الشعرية عند المتلقي، فيقدمها له مرسومة صامتة تارة (كما في الاسم الملقى على الشط)، أو يشكِّلها صاخبة متحركة فراغيا، وممتدة على مدى واسع من مساحة النص تارة أخرى (كما في محاولة النهوض الصعبة من الأسفل).
ومخاطبة الشعب ممثلا للجماعة في القصيدة، منحت الخطاب الشعري تأثيرا جماليا إضافيا؛ لأنها فتحت له أفقاً خياليا أوسع مما لو كان الخطاب موجّها إلى الفرد؛ وذلك لأن من يخاطِب الشعب في العادة هم القادة. فاستعار الشاعر هذه الخصيصة لخطابه الشعري، لتكون إحدى مكامن قوى التأثير الجمالي فيه، ولتمنح الخطاب ثقة وثباتا، وكأنه يتحدث إلى الشعب كقائد له. على الرغم من أنه في الوقت نفسه لا يتخلى عن موقعه كإنسان يمني مقهور، يشارك هذا الشعب قهره وألمه وهزائمه.
كثيرونَ…هُمْ مَن لا يُريدونَ أنْ تُرَى
فلا تَبْتَئسْ ما دُمْتَ أسْمى وأكْبَرَا
في مطلع القصيدة السردي والذي لا بد لنا من الابتداء بما حمله من مباغتة، أنشأ الشاعر أول وأهم محاور/أنساق القصيدة وهو نسق الأمر بالتماسك والصبر. لأن من لا يريدونك أن ترى كثيرون..فلا تبتئس لأنك على الرغم من كثرتهم، فأنت أكبر منهم.
الصور الشعرية الحسية في هذه القصيدة ليست كثيرة العدد، لأن القصيدة تنتهج أسلوبا خطابيا استفزازيا/ دفاعيا، يبدو وكأنه جانبٌ من حوار غير تجاوبي بين متكلم ومستمعَين .
فثمة متكلم واحد هو الشاعر الذي يختار صيغة (نحن) للتعبير عن نفسه كجماعة، وثمة مستمعان اثنان يتلقيان الخطاب. أحدهما هو الشعب اليمني الذي يقف الشاعر في جهته. والآخر هو ذلك القادم الدخيل المعتدي الذي يريد تدميراليمن، وفرض سيطرته عليه، عقديا وسياسيا.
أول الصور الشعرية القابلة للتخيّل البصري جاءت في البيت الثاني، وبُنيَت جماليا على فكرة رسم الأسماء على رمال الشواطئ:
أظُنُّ اسْمَكَ المُلْقَى على الشَّطِّ لَم يَزَلْ
بمَقدورِهِ أنْ يَمنحَ البَحْرَ جَوْهَرا
فلا تَلْتَفِتْ مهما اللّيالي تَقاذَفَتْ
عليكَ، فلنْ تُخْفيكَ ما دُمْتَ “حِمْيَرا
ولا يعرف القارئ في البدء لمن ذلك الاسم الملقى على الشط. ويحتفظ بفضوله لمعرفة ذلك إلى حين قراءة البيت التالي، الذي يتضمن لفظة (حِمْيَرا). وهي المملكة القديمة التي استطاعت القضاء على أربع ممالك منفصلة في اليمن القديم، عبر ضمَّها وقبائلَها وتوحيدها في مملكة واحدة، هي آخر مملكة يمنية قبل الإسلام. إذن فالاسم الملقى على الشط هو اسم حِميَر/ اليمن .
وننظر في الفعل ( أظنّ ) لنقرأ في خلفيته شيئا من الشكّ بقدرة هذا على الاسم على منح البحر جوهرا؛ لأن الشاعر هنا يظنّ ظنّا ولا يجزم جزما .فهو ليس متأكدا تماما مما يقول.
فما سبب هذا الظنّ وعدم الجزم في خطاب يرجى منه أن يكون محفّزا قويّا؟
الإجابة عن هذا التساؤل نجدها في قوله (لم يزل بمقدوره ).
لم يزل: تعني أن (اسم اليمن) كان يمنح البحر جوهرا من قبل. فالشكّ يتعلق بالتساؤل: (هل مازال بمقدوره فعل ذلك الآن أو لا)؟
لأن ما تعرّضَ له اليمن من هول وشدّة استنزاف قواه، وطاقاته، يجعل المرء غير قادر على الجزم.
فعندما ينطلق الشاعرمن اعترافه بالضعف الشديد، يتوجّب عليه أن يتحدث عن الظنّ وليس عن اليقين. لأنه يريد أن يؤكد لنا أن نهوض اليمن صعب جدا. وأنه سيبدأ من مستوى التشكيك في القدرة على النهوض.
أظُنُّ اسْمَكَ المُلْقَى على الشَّطِّ لَم يَزَلْ
بمَقدورِهِ أنْ يَمنحَ البَحْرَ جَوْهَرا
ونأتي الآن إلى الدلالة المعنوية لكلمة (جوهرا). فهل هو الجوهر/ بمعنى المعنى والجدوى؟ أم هو الجوهر من الحجارة الكريمة والمجوهرات؟
كلتا القراءتين ممكنتان. وفي كل منهما تبقى صورة البحر الهائل الذي يتلقى جوهره المعنوي الوجودي، أو جواهره الثمينة من مجاورته لليمن الذي استلقى باسمه على الشط ، تبقى دلالة رائعة على عظمة المانح (اسم اليمن)،وعظمة الممنوح(البحر) وعظمة الأُعطِيَة (الجوهر).فهذه عناصر لصورة شعرية زاخرة جدا بالكبرياء والشعور بالثقة . تبدأ بها القصيدة من مستو عال معنويا.
ثم يشكّل لنا الشاعر مشهدا شعريا ضخما، يقوم على صور شعرية جزئية متوالية، تساهم كلّها في بناء المشهد الحركي الأسطوري الذي يبدو فيه اليمن واقعا في الأسفل، في مستوى التراب الذي التصق به. والشاعر يحثّه على النهوض العسير، الذي يجب عليه أن ينفّذه ليعود إلى أصله العلوي. فقوام الصورة الشعرية هذه يعتمد على طريقة المزاوجة في دلالات المفاهيم المتقابلة (العلوي والسفلي) .
ويمهِّد الشاعر لهذه المقابلة المزدوجة بتوصيف ما يتعرض له الشعب من تهديد بالاختفاء، فالليالي المظلمة تتقاذف عليه، وهو يتفكك ويكاد يفقد تماسكه، وستتسع دائرة الصورة الشعرية بعد بيتين لندرك أن هذا الشعب قد أصبح ملامسا للثرى والحصباء. إلا أن الشاعر يشد أزره ويذكَره بنقاط قوته.
فلا تَلْتَفِتْ مهما اللّيالي تَقاذَفَتْ
عليكَ، فلنْ تُخْفيكَ ما دُمْتَ “حِمْيَرا
بأَمْسِكَ إنّ الفَخْرَ لا شَيْءَ، إنّما
تَماسَكْ به كيْ لا تَمُوتَ وتُقْبَرا
وذلك لأنه هو (حِميَر) التاريخ محطّ الأصالة والعراقة ومنبع الفخر. على أن الشاعر يعرف أن الفخر بالأمس لا ينفع ولا يعدل شيئا أمام هزيمة الحاضر. ولكن هذا الفخر يمكنه أن يساعد على تماسك جسد اليمن الملقى على التراب؛ لكي لا يصبح في عداد الأموات. ويبدو أنه ما من وسيلة أخرى يمكن تحقيق التماسك بها غير الفخر بالتاريخ (تماسك به) .
تَماسَكْ بذِكْرى النَّجْمِ، يا أيُّها الذي
سَقَطْتَ، لكيْ لا تَأْلَفَ القاعَ والثَّرى
لماذا بـ(ذكرى النجم) وليس بالنجم الحاضر؟
لأنه ما من نجم حاضر .
يستخدم الشاعر الرمز في هذا الجزء من الصورة الشعرية المشهدية.
و(ذكرى النجم) هي رمز التاريخ الفاخر. وعندما يقول الشاعر (ذكرى النجم) فإنه يمنح المعنى عمقه الذي يستحق الترميز فعلا. ففكرة الحاضر الذي يزخر بالانتكاسات والخسارات والهزائم، هي التي تقبع خلف دلالة التمسك بالذكرى؛ لأن الشاعر يريد أن يقفز من فوق الحاضر المخزي، ويريد أن يتجاهله، كي لا يصطدم بتأثيراته المحبطة.
والشاعر يخشى على الشعب وينبهه من مغبّة أُلفَته للقاع والثرى، من طول معايشته لهما، ومن شدة اقترابه منهما والتصاقه بهما. فيأمره بالتأفف من الحصباء.
لكن التأفّف لا يأتي في العادة تنفيذا لأمر خارجي؛ لأنه يكون عفويا وفطريا على الأغلب. ففعل الأمر (تأفّف) يشير إلى خوف الشاعر من احتمال عدم قدرة الشعب على التأفّف أيضا. فنسنتنج أن الحال قد وصل بالشعب إلى مرحلة النزع الأخير، إلى مرحلة عدم القدرة على الإتيان بحركة بسيطة، أو انفعال بسيط كالتأفّف .
هذه المتابعة والمواكبة لانفعالات الشعب في تتابع الصورة الشعرية التفاعلية الحركية، والتي وصلت إلى مرحلة خلق ورسم ذبذبات انفعاله، هي روح الثورة الحقيقية، التي تريد أن تخطط لمستقبل آخر مفاجئ وغير مطابق لمعطيات الواقع البائس.
تَأَفَّفْ مِن الحَصْباءِ، إنْ صِرتَ جارَها
لَعَلَّكَ لا تَغْدو أَقَلَّ وأَصْغَرا
والتحذير من خوف عدم التأفّف سبب خشية الشاعر من اعتياد النفوس لمجاورة ما هو صغير وسفلي، من الحصباء والتراب . فالاعتياد يورث التجانس، والتصاغر يمضي ويستمر ويزداد .
يُشبِع الشاعر هذه الفكرة تمحيصاً وتعميقا، ويعالجها من جوانبها المختلفة، في صورة شعرية ترسم توقعاته المخيفة.
ونستطيع معها تصوّر المخاطَب الملقى على الثرى، وهو يحاول التأفّف والنهوض. فلعله يسمع صوت الشاعر، وهو يلقِّنه ما يجب عليه فعله. ويبدو الإنسان/ الشعب اليماني في هذه المحنة أشبه بمن فقد وعيه أو كاد يفقده. وتبدو قدرته على الإدراك مهدّدة وغير مؤكدة . وكأنه مخدَّر، أو مقبلٌ على الدخول في غيبوبة عن الوعي .
لذا فإن دلالات الصورة الشعرية تنصبُّ على مسألة الوعي والإدراك هذه. والشاعر يأمره بأن يدرك وأن يظلّ مدركا لحقيقته. ويعيد صياغة قصة الوقوع من الأعلى (من علٍ) وويعيد إلقاءها على سمعه لتذكيره بها. فهذه عملية تلقين أشبه بتلقين الميت، وأشبه بعملية تعليم الغريق طريقة تمسكه بما ينقذه من الغرق.
إدراك الشعب لحقيقة أنه علوي، وأنه قد وقع من الأعلى،هو ما سيبقيه على صلة واتصال بمكانه العلوي ( لكي يبقى اتصالك بالذرى)
وظَلَّ على إدراكِ أنَّكَ مِن عَلٍ
وَقَعْتَ؛ لكيْ يَبْقَى اتّصالُكَ بالذُّرَى
اتصالك بالذرى يعني أنك كائن قريب من السماء، بل إن هذه السماء التي تحيط بالذرى هي سماؤك أنت . فلا تقبل بديلا عنها بهذه الحصى (سَماؤكَ لا تَقْبَلْ بها هذهِ الحَصَى،). ولا تقبل بأن يكون التشرد في العراء بديلا في مدينة بني غمدان الذين سكنوا أعاجيب القصور. و(بني غمدان) إشارة إلى (قصر غمدان) التاريخي الذي سكنه آخر ملوك اليمن (سيف بن ذي يزن) في مدينة صنعاء والذي كان من عجائب الهندسة المعمارية ومن أقدم القصور الضخمة في العالم. فكان عدد طوابقه عشرين طابقا ولا يقل علو الطبقة منها عن عشر أقدام.
فكيف يمكن لمدينة سكن بنوها مثل هذه القصور أن يسكنوا اليوم العراء ويرضوا به بيتا ؟..
سَماؤكَ لا تَقْبَلْ بها هذهِ الحَصَى،
ولا ببَني “غَمَدانَ”، بَيْتًا مِن العرا
ومهارة التصوير والتخييل في الانزياح الدلالي تتوازى عند الشاعر هشام باشا مرات عدة، في كثير من أبيات القصيدة ، إحداها عندما يقول:
هُرَاءٌ، هُرَاءٌ، أنتَ يا عاصِرَ اسْمِهْ
وأَلْقابِهِ حتى يُفَجِّرَ أَنْهُرا
فهنا يتبع الأسلوب المباشر جدا عندما يصيح (هراء، هراء) . ويتبعه انزياح دلالي رائع في صورة شعرية تقوم على الفعل الحركي في عملية (العصر) الذي ينتج عنه قليل من السائل من المادة المعصورة.
عصر الاسم وعصر الألقاب لتفجير الأنهار.
هي الكناية التي تبدو جليّة المعنى على الرغم من فرادة فكرتها وابتكاريتها.
إن دلالة عملية العصر تعبِّر تماما عن المغالاة والمبالغة، والرغبة في استخراج واستنباط الكثير والمزيد مما يتم عصره.
وجمال هذه الصورة الشعرية يكمن في اختزالها ما يجري من عمليات اختلاق للقصص والمعاني الملفقة، وفق الرغبة، وحسب الاحتياج، في اعتقادات مشوّهة متضخمة، بتمثيل ذلك كله من خلال سلوك حركي بسيط قريب إلى الذهن في دلالته (سلوك العصر) فهذه لغة مجازية بيانية مكثّفة حقا.
وسأتوقف عند الصورة الشعرية الحسية الأخيرة في القصيدة، في قول الشاعر
مِن الصَّعْبَ أنْ يَهْديْكَ نايٌ وآيةٌ
وما زلتَ للشّيطانِ حِبْرًا، ودَفْتَرا
والتي يصوّر فيها من جاء بهدف الأخذ بالثأر القديم، من الشعب اليمني الأعزل، وهو يدّعي هداية اليمن هدفا وغرضا له.
فهو يتلقى توجيهاته من قبل (ناي وآية). فأما كلمة (الناي) فلم أجد لها تسويغا مقنعا في دلالتها المعنوية، إلّا أن يقصد بها الشاعر معنى ( البوق ) في عملية الترويج للعقيدة المشوَّهة. فإذا كان هذا هو المقصود فعلا، فأحب أن أقترح بديلا لها كلمة (بوقا) التي تتلاءم مع الوزن والمعنى.
وأما كلمة (آية) فلا بد من الإشارة إلى أن المقصود منها هواللقب الديني الشائع (أية الله) عند بعض الشيعة وفي إيران، والذي يُمنح لمن بلغ درجة الاجتهاد في الفقه فهو متوقع منه أن يهدي غيره. ولكن الشاعر ينفي عنه تأثير الهداية.
فمن الصعب أن يهديك (ناي وآية) وأنت ما تزال أداة ووسيلة (حبرا ودفترا) في يد الشيطان، يستخدمك ليسجل بك، وعبرك، ما يريد من شر في الأرض.
ويمكن فهم هذه الصورة الشعرية بوضوح أكبر من خلال فك شيفرة الرمز فيها لكل من مفردتي (ناي وآية). لأن بقيّة قول الشاعر (وما زلتَ للشّيطانِ حِبْرًا، ودَفْتَرا) واضح مفهوم ولا يحتاج شرحا .
قصيدة (لكيْ لا)…
كثيرونَ…هُمْ مَن لا يُريدونَ أنْ تُرَى
فلا تَبْتَئسْ ما دُمْتَ أسْمى وأكْبَرَا
أظُنُّ اسْمَكَ المُلْقَى على الشَّطِّ لَم يَزَلْ
بمَقدورِهِ أنْ يَمنحَ البَحْرَ جَوْهَرا
فلا تَلْتَفِتْ مهما اللّيالي تَقاذَفَتْ
عليكَ، فلنْ تُخْفيكَ ما دُمْتَ “حِمْيَرا”
بأَمْسِكَ إنّ الفَخْرَ لا شَيْءَ، إنّما
تَماسَكْ به كيْ لا تَمُوتَ وتُقْبَرا
تَماسَكْ بذِكْرى النَّجْمِ، يا أيُّها الذي
سَقَطْتَ، لكيْ لا تَأْلَفَ القاعَ والثَّرى
تَأَفَّفْ مِن الحَصْباءِ، إنْ صِرتَ جارَها
لَعَلَّكَ لا تَغْدو أَقَلَّ وأَصْغَرا
وظَلَّ على إدراكِ أنَّكَ مِن عَلٍ
وَقَعْتَ؛ لكيْ يَبْقَى اتّصالُكَ بالذُّرَى
سَماؤكَ لا تَقْبَلْ بها هذهِ الحَصَى،
ولا ببَني “غَمَدانَ”، بَيْتًا مِن العرا
وقُلْ: إنّ “صَنعاءَ” السَّعْيدةِ أسْلَمْتَ
لتَزْدادَ سَعْدًا، لا لتَبْكيْ تَحَسُّرا
وأَسْلَمَ “غَمْدانٌ” ليَزْدادَ رَفْعَةً
وليسَ لكيْ يُلْقَى الى الحَشْرِ في “حِرَا
رَضِينا -لنُرْضِيْ اللّهَ- “طَهَ” ودَينَهُ
وليس لكي نُرضي “عَلِيًّا” وما ذَرا
مُحَمّدُ لَم يُذْهِبْ ب”كِسْرى وقَيْصَرٍ”
ليَجْعَلَ مِن أَبْناهُ” كِسْرى وقَيْصَرا
مِنْ الكُفْرِ تَصْويرُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
أتَانا لنَعْمى، أو لنَشْقى بما نرى
هُرَاءٌ، هُرَاءٌ، أنتَ يا عاصِرَ اسْمِهْ
وأَلْقابِهِ حتى يُفَجِّرَ أَنْهُرا
هُرَاءٌ، وحِقْدٌ أنتَ، والسَّيْفُ لَم يَعُدْ
صدَيقَكَ، مُذْ قام “الثُّلايا” ليَثْأَرَا
أتَعْرَفُ كَمْ صارَ “الزُّبيريْ” وصَحْبُهُ
و”أيَلولُ” كَم أضْحى كِتابًا وخِنْجَرَا
كثيرينَ جِدًا، صارَ مَن لا تُحِبُّهُم
ولو زِدْتَهُم بُغْضًا سيَغْدُونَ أكَثَرا
ولولاكَ ما صاروا كثيرًا، وإنّما
بهِمْ ضِقْتَ فازْدادوا لكيْ تَتَفَجَّرَا
وإنّكَ لو أحْبَبْتَهُم، أو تَرَكْتَهُم
لَما كَثروا، لكِنْ كَرِهْتَ لتَضْجَرَا
مِن الصَّعْبَ أنْ يَهْديْكَ نايٌ وآيةٌ
وما زلتَ للشّيطانِ حِبْرًا، ودَفْتَرا
هُرَاءٌ، هُرَاءٌ أنتَ، يا أيُّها الذي
أرَادَ على أنْفاسِنا أنْ يُسَيْطِرا
أتَعْرَفُ كَمْ “نَشْوانُ” يَعْني لوَحْدِهِ؟
وكَمْ صَوْتُهُ يَعني قُرُونًا وأَعْصُرَا؟
كَبيرونَ جِدًا نحنُ لولا وُقُوفُنا
لأُوْشَكَ غيرُ اللّهِ أنْ يَتَكَبَّرا
كَبُرنا، فأدْرَكْنا بأنّ مُحَمَّدًا
بمَعْنى السَّما ما جاءَ إلّا لنَكْبُرَا
وباللَّهِ آمَنّا وأمّا بغيرِهِ
فما جاءَنا الإسلامُ إلّا لنَكْفُرَا