لقد غرقت ذكرياتنا
عبد الرزّاق الربيعي
اللوحة الزيتية للفنان: Natalya Osadcha Ukrainian painter born in 1979 5.jpg
بمجرد وصولي الرياض للمشاركة بفعاليات معرض الدولي للكتاب بدورته، بدأت تصلني الأخبار المقلقة التي تتحدّث عن الأنواء المناخية الاستثنائية التي شهدتها السلطنة، وحملت توقيع “شاهين”، الذي أحالنا اسمه إلى الطائر الجارح، وتحولها من حالة مدارية في بحر العرب، إلى تعمّقها لإعصار، وتوقعات الأرصاد الجوية بنزول أمطار قد تتسبّب عن سقوطها بغزارة إلى فيضانات للأودية.
ثمّ بدأت تحذيرات الأرصاد تصدر، وإجلاء المواطنين والمقيمين في بعض المناطق التي من المتوقع أن تكون عرضة للأضرار أكثر من غيرها حسب توقعات خبراء الانواء الجوية،وإغلاق شارع السلطان قابوس، شريان مسقط، ومنح العاملين في القطاعين الحكومي، والخاص إجازة لمدة يومين، والتنبيه لضرورة إخلاء المنطقة التجارية في القرم، حيث أسكن على مقربة منها، والتوجّه إلى مناطق آمنة، تحسبا لارتفاع منسوب المياه، تلك الأخبار، أعادت للذاكرة أكثر من ظروف مناخية استثنائية مرّت بها السلطنة لعل أسوأها الحالة الأنواء المناخية “جونو” التي ضربت السلطنة في الخامس من يوليو ٢٠٠٧، وكنت قد دوّنت تفاصيلها أولا بأوّل، في مقالات نشرتها في تلك الأيام في أكثر من صحيفة إلكترونية، ثم جمعتها بكتاب حمل عنوان: “مدن تئن وذكريات تغرق”، ومما أذكر أن العنوان استوحيته من مشهد وقوفي أمام مطعم كائن في المنطقة التجارية بالقرم، تناولت به العشاء مع مجموعة من الأصدقاء، قبل أيام قليلة من هبوبها، وحين رأيت المياه قد ارتفعت حتى بلغت الطابق العلوي، حيث الطاولة التي جمعتنا، قلت لنفسي: لقد غرقت ذكرياتنا، وكانت هذه الجملة الرحم الذي خرج منه عنوان الكتاب الصادر عن دار الإنتشار العربي ببيروت ٢٠٠٨، وبالوقت الذي كنّا نتابع هذه الأخبار، بقلق، ومع تطوّر الحالة، وبدء سقوط الأمطار الغزيرة، وهبوب الرياح الشديدة، بدأت الرسائل تصلني من الأصدقاء من أماكن متعدّدة، تستفسر عن الأوضاع، وتدعو للسلطنة، وأهلها بالسلامة، وبدلا من طمأنتي زادتني قلقا، ففيما كنا نتجوّل بين أجنحة معرض الرياض الدولي للكتاب، ونحضر الفعاليات الثقافية، ونلتقي بالناشرين، والأصدقاء من الأدباء، والمثقفين.
كنت مشتّت البال، وتساءلت مع نفسي: ماذا لو مكث (الشاهين) مدّة أطول، فارشا جناحيه ليحجب ضوء الشمس، والأمل، وتفاقم الوضع أكثر ، لاسمح الله، وتوقّفت حركة الطيران، من يعيد الطائر البعيد إلى عشّه المسقطي؟ فأطرد الوساوس عن قلبي، ما استطعت إلى ذلك سبيلا،
كانت وكالات الأنباء العالمية والقنوات الفضائيّة تبثّ صورا موجعة عن حجم الخسائر، ونزول الأودية، وسحبها جثث السيارات الغارقة، والأشجار التي قطعت الريح الشديدة أعناقها! بعد مقاومة عنيفة معها،، كما رأيت في الحالة المدارية (جونو)، ثم استسلمتْ لمصيرها، فيما عبرت الريح إلى جهة أخرى من القلب، لكنّ مسقط بجبالها، وبناياتها، وروحها المشرقة، ظلت تقاوم، ولم تستسلم، فسرعان ما بدأت تصلنا الأخبار المطمئنة، التي بشّرتنا بانجلاء الخطر، وعبور العاصفة، وعودة شمس الطمانينة لمسقط، كما قالت الشاعرة شميسة النعماني:
مِنْ قَبْلِ شاهينَ مَرُّوا مِثْلَهُ كُثُرٌ
فما انْحَنَيْتِ، ولا أبناؤُكِ وَهَنوا
كالشمسِ عاليةً، إنْ صابَها كَدَرٌ
تعوذُ منهُ، ويخطو خَطوها الزمنُ
إذن مضى “شاهين”، تاركا لنا دروسا في مواجهة الصعاب، التي هي قدر مسيّر من السماء، وليس لنا قدرة في السيطرة عليه، ولا تحكّم فيه، مثلما الحياة والموت، لكن الاحتياط واجب في مواجهة الأقدار التي تداهمنا دون سابق إنذار ، و”الوقاية خير من العلاج”، وماعلينا إلّا تغذية روح التحدي، والحميّة على وطن أشاده الخيّرون، وهذا يملي علينا ضرورة المحافظة على ملكاته، والسعي إلى الإرتقاء بها، فالحياة دروس توجّه نحو النهج الصحيح، فينبغي الإسراع بإصلاح البنية التحتية التي تضرّرت، واتخاذ ما يلزم من إجراءات لإعادة الخدمات التي طالتها الحالة المدارية، بموجب ماارتأته الإرادة السامية، التي تابعت الحالة المدارية، وسيرت الأمور بحكمة، ووجهت بذلك، داعين المولى أن يحمي البلاد، والعباد من هذه الكوارث، ليطير (الشاهين) بعيدا، وبلاعودة.