العلوم الإنسانية بين الهوية وسوق العمل
شيخة الفجرية | كاتبة من سلطنة عمان
By Alois Arnegger (1879-1963)
تعدُّ العلوم الإنسانية أس التربية والتعليم، منها يدلف المتعلم بما لديه من عادات وتقاليد مجتمعه إلى الحياة الاجتماعية، متبصرًا بوضعه الجغرافي والتاريخي، مستشرفا مستقبله وفق الحاضر الذي يعيشه، لينحو نحو المشاركة الواعية في مواجهة تحديات المجتمع، والإحاطة بدراسات النظم الشعبية والحكومية وقوانينها، وتنمية مهارات التفكير العلمي، وضبط السلوك الاجتماعي، وفهم قيمة التفاهم والتضامن مع الآخر. وقد نشأ الفكر الاجتماعي في ظلِّ الحضارات القديمة، عبَّر عنها كلّاً من: أفلاطون(عاش بين 427 ق.م – 347 ق.م)، و تلميذه أرسطو(عاش بين 384 ق م – 322 ق م)، والشاعر الأثيني سولون صاحب كتاب “دستور سولون” (عاش بين 640 – 559 ق.م)، واكتيانوفون (عاش بين 570 – 480 ق.م) رائد البحث في “الاقتصاد المنزلي و التربية الاجتماعية السياسية”، وسقراط (عاش بين 469 – 399 ق.م)، و منهجه في “الشكل و التجربة”، والفيلسوف اليوناني أبيقور (عاش بين 341 – 270 ق.م) صاحب نظرية” الدوافع الإنسانية”. وقد عمدت هذه التمهيدات على تطوير المفاهيم العلمية، المستعملة في وصف حالات المجتمعات، التي مرَّت بتغيُّرات عبر الأزمنة، و”يستعمل مصطلح التغير الثقافي للدلالة على حدوث عملية من التطور والتحول في كل أو بعض العناصر الثقافية في المجتمع، كاللغة أو العلم او الدين أو أي نظام من النظم الاجتماعية السائدة في المجتمع…”؛ لينتج من كل ذلك هوية ثقافية لكل مجتمع.
وقد شبَّه دورايسDorais Louis) ) في مقاله في مجلة الدراسات / الإنويت _ هي مجلة علمية نصف سنوية تم نشرها منذ عام 1977 في كندا “الهويات. دراسات” الهوية الثقافية بالصيرورة والتطور، والهوية في القواميس الفلسفية الأوربية تعني “الذات” أو “الأنا” تُقابل الآخر والذات “الأنا” le même أي الشيء هو ذاته وعين نفسه_. أما الهوية عند الأنثروبولوجي الفرنسي اسحاق شيفا (Isac Chiva) فهي تعني:” القدرة على أن كل واحد منا يجب أن يكون على بينة من استمرارية الحياة من خلال الأزمات والتغييرات والتصدعات..”. وللهوية وظائف متعددة؛ منها: الوظيفة الاجتماعية، الوظيفة النفسية، وجاء في كتاب “العولمة والهويات الثقافية” عن أن وظيفة الهوية أنها تضع “كل في محيطه لكي يبقى هو ذاته”. وأمَّا فروع العلوم الإنسانية: من أهمها الأنثروبولوجيا ، علم الإجرام، الديموغرافيا، علم النفس، علم الاجتماع، الفلسفة ، العلوم السياسية.
وقد كان للعمانيين نصيب ليس بالقليل في تأسيس بعض هذه العلوم، ومن هذه المساهمة أسست عُمان لهويتها عبر التاريخ، من خلال مثابرة أبنائها في مدِّ العالمِ من حولها بما اكتنزوه من جدٍّ واجتهادٍ لابتكار شتى أنواع العلوم، مثل علوم البحار، التي تصف المصادر السومرية القديمة بأن أهل عمان رواد الملاحة البحرية، وكان السومريون يطلقون على بلاد عمان قبل أربعة آلاف سنة اسم مجان كما ورد ذكرهم كبنائين للسفن في عهد شلجى حوالي 2050 قبل الميلاد، ومن ذلك جاء اسم الملاح العماني أحمد بن ماجد مكتشف المرشدات الملاحية. وأبو عبدالرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (100ه/718م – 173 ه/791م ) مؤسس علم العروض ومعلم سيبويه وواضع أول معجم للغة العربية وهو العين، والحديث يطول عن مساهمة العمانيين الذين رصدت مساهماتهم في العديد من أمهات الكتب والمجال لا يتسع لذكرها هنا في هذه السطور. وما يمكن قوله في هذه السانحة: أن العلوم الإنسانية تشبه القاطرة التي تطوف القلوب والعقول وتضيئها، لينعكس ذلك على البلدان في العمران، والمأكل والملبس وأنماط الحياة. إذ لا يمكن الاستهانة بما حققته العلوم الإنسانية، يكفي أنها من أشعلت الجذوة في العلوم التطبيقية وجيَّرتها لتنفيذ ما جاء في العلوم الإنسانية، فمن خيالات الشعراء والأدباء وعلماء النفس والاجتماع هندمت العلوم الفيزيائية والكيميائية والهندسية الخرائط والتصميمات لبناء العمران بكافة الأنواع والأشكال. وأضئت الكثير من الجوانب حول هذه المسألة في الجلسة الحوارية التي أقامها النادي الثقافي بعنوان: “العلوم الإنسانية بين الهوية وسوق العمل”، وأدارت صفية أمبوسعيدي هذه الجلسة، التي شارك فيها: الدكتور عبد العزيز الصوافي، وعن سؤال وجه إليه عن دور الجامعة قال الصوافي: ساد الفكر البراجماتي في فترة من الفترات، بمعنى أن الجامعة هدفها سوق العمل، وبما تخصص العلوم الإنسانية لا هدف له وغير مطلوب، والشخص (الذي يدرس العلوم الإنسانية) سيتحول إلى باحث عن عمل، فلماذا (تطرح الجامعة) هذا التخصص؟ كان هذا الفكر فكر خطير ويتجه مباشرة إلى التركيز على علوم التكنولوجيا والهندسة والرياضيات، ولكنهم اكتشفوا أنَّ هذا فكر خطير جدًا، والمجتمع لا يمكن أن يقوم بدون العلوم الإنسانية، فتخيل مدينة بدون مسرح أو شعر أو رواية، علم اجتماع علم آثار وعلم نفس! وتكون (هذه المدينة) مجرد مباني ومصانع وبرامج وحوسبة! لذلك قررت الجامعة على الإبقاء على هذا المقرر وطرح مقرر جامعي آخر اسمه (ريادة الأعمال) لكل الطلاب في جميع التخصصات.
وأضاف بأن: المنتمين إلى العلوم الانسانية مكافحين، والإنجازات التي حققوها تفوق إنجازات المتخصصين في العلوم التطبيقية، من هندسة وطب، ومقاتلين لأن هذه الكليات مازالت إلى اليوم لديها مؤتمراتها، ولديها جوائزها، ولديها مجلاتها العلمية.
ومن المشاركين في الجلسة أيضًا، الأستاذ الدكتور أحمد يوسف، الذي شكر النادي الثقافي على اختياره لهذا العنوان، فالعنوان ذو طابع إشكالي وسجالي وراهني، والعلوم الإنسانية ببساطة، كما هي الصفة لموصوف العلوم، التي تدرس الإنسان، أي أن الإنسان موضوع، وثمة علوم تدور حول الإنسان، والعلم لا يكون علمًا إلا إذا كان له موضوع ومنهج، فالطب موضوعه بدن الإنسان، وعلم النفس موضوعه النفس البشرية، لهذا فالطبيب العضوي لا يمكنه معالجة المريض النفسي والعكس، والطبيب النفسي لا يمكنه علاج المريض العضوي، لأن الأمر متعلّق بطبيعة الموضوع أي الموضوع هو الذي يحدد طبيعة العلم.
من كل ذلك، فقد آن الأوان للتوسع في الحديث بجدية عن راهنية العلوم الإنسانية والتطبيقية، وعن ضرورة الاهتمام بكليهما معًا، مع إعطاء العلوم الإنسانية مزيدًا من الرعاية في بلادنا، وفتح المجال الأوسع للمنتسبين إليها برغبة صادقة، ودرجات علمية عالية حالها حال العلوم التطبيقية.