العقيدة وسنة التمكين
محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
هل التمكين المقصود هو: التمكين العقدي، أم التمكين الحضاري؟! هناك خلط في الرأي عند ذكر التمكين، بين مفهوم التمكين ل (العقيدة)، والتمكين الحضاري.. لكن القرآن أتى ليصحح هذا الرأي ويزيل هذا اللبس، فإذا كان التمكين يعرض لبعض النماذج من الحضارات البائدة التي عرجنا على مثلها (فارس والروم قديما) والحضارة الغربية (حديثا)، والتي أخذت بأسبابه الكونية الظاهرة، وهي التي جعلها الله طوعا ومعطاء لمن انفعل بها وثابر على الأخذ بها.. لكن لا يكون هذا إلا في غياب أهل العقيدة السماوية وتخاذلهم عن نصرة منهجهم والأخذ بأسباب القوة فيه.. حينئذ تدور عليهم سنن التبديل كما كانت لهم سنن التمكين، وهذا مسطور في الكتاب لا مراء فيه ولا شبهة في فهمه (آيات محكمات).
“وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)”[البقرة]. “وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)”[الأعراف]. “وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) “[الأعراف]. “قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)”[الكهف]. “يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)”[مريم]”.”…”وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)”[الحج].
ثم يقول لهم في آيات أخر “…وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)”[محمد]. “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)”[المائدة].
فهناك خصوصبة فارقة بين التمكين للعقيدة، والتمكين للحضارة.. فأمر العقيدة لا يقبل القسمة ولا يحتمل المقاربة أو الأخذ ببعض الكتاب والكفر ببعض، أو جعله قراطيس يبدى بعضها ويخفى الكثير كفعل بني إسرائيل؛ إنما هو قول فصل وأخذ بقوة ، وهذا هو أساس التمكين الحقيقي الذي يؤسس عليه صرح الحضارة.
ومن هنا جاء التمكين لبني إسرائيل حين صبروا على البلاء من فرعون وقومه لما حملوا راية التوحيد، فقال الله عنهم “وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)”[القصص].
وإذا كان (مالك بن نبي) قد حصر عوامل الحضارة الأساسية في ثلاثة عوامل هي: الحضارة = الإنسان +التراب + الوقت (1).. فإن الإنسان هنا بالنسبة للحضارة الإسلامية الحقيقية لا يعني إلا الإنسان الفطري الموسوم بالتوحيد المتعلق بعقيدته الصحيحة، وليس الإنسان الذي جرفته الحضارة المادية حتى أذهبت معالمه، وطمست فطرته البشرية النقية المتشوفة بطبيعتها دوما إلى التوحيد الذي جبلت عليه.. والتي سمت بروح هذا الإنسان فخلقته بالقيم والمثل والأخلاق والآداب، حتى استحق التمكين وقام بحق الاستخلاف في الأرض من الإصلاح والإعمار.
لم يبق من معالم هذا الإنسان وطبيعته إلا هذه الطبيعة الجسدية اللاهثة خلف المادة، تولي شطرها أينما ولت متحللة من قيم الفطرة وأخلاقها، باحثة عن شكل العلم البشري المتفلت من ضوابط القوانين الإلهية، والرفعة الربانية التي وهبه الله إياها عن قدر وتقدير”يرفع الله الذي آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات”.
إن التمكين الحضاري متعلق في حقيقته بالتمكين العقدي وهو المراد الأول من حقيقة الاستخلاف “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)”[الأنبياء]، وهي حقيقة قرآنية توحي بأن الإرث والتمكين الحقيقي لا يكون إلا لحملة رسالة التوحيد، وما يزال منوطا بهم ما يزالون قائمين بحقه، حتى إذا غلبت عليهم طفرة الحضارة المادية فاتسهوتهم زينتها واختبلهم زخرفها، وعفا من أذهانهم عهد آبائهم الأولين الذين أصلوا لهذا التمكين وحق لهم هذا التدويل بما أخلصوا دينهم لله .. “فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)”[الأنعام].
وقد أعد الإنسان الأول (آدم) عليه السلام لهذه الخاصية (الاستخلاف) بكل ما تحمل الكلمة من معناها، حيث فطر على التطلع والتطور والضرب في مناكب الأرض والبحث في عطاءاتها، لتكوين مضمون هذه الحضارة التي تعكس الصورة الحقيقية لهذا النوع المستخلف المدعم بهذا العقل الذي يخصصه عن الكون بما فيه ويتيح له كثيرا من الهيمنة والريادة على الكائنات.
إذا كان الإنسان قد مكن ليقوم بحتمية صناعة هذه الحضارة، فإنه في المقام الأول قد فطر على التوحيد وما خلق إلا للعبادة “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” ، فهي الحقيقة الأولى الذي نزل للأرض من أجلها، ثم يأتي التمكين تباعا للتعبد، وهذا ما نص عليه صريح القرآن في أكثر من آية
لكن (وول ديورانت) يرى غير ذلك في قصة الحضارة: “أن عوامل الحضارة تتلخص في مجموعة عوامل (موارد اقتصادية ــ والنظم السياسية ــ والتقاليد الأخلاقية ـــ والتطلع للعلوم والفنون) فهو يراها مجرد نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي (أولا)، ثم هي تتألف من العناصر الأربعة السابقة.. ثم وهذا هو ـــ المحك ـــ أنها تبدأ من حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا أمن الإنسان من الخوف تحركت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء.. ثم لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وإزهارها” (2).
وهذا الأمن من القلق والاضطراب المذكور في قصة الحضارة، لا يتأتى إلا من فضيلة التمكين التي يخص القدر بها من هم أهل لها، وهذه العوامل الاقتصادية والسياسية والأخلاقية لا تتحقق إلا من جراء الفكرة العقدية التي تبث روحها في النفوس فتفزع بهذا الوازع الديني، وبهذا التأييد الملهم إلى إخضاع مفردات الكون بما فيها بقية الإنسان إلى نفس الفكرة ثم الوصول بها إلى حالة من التوافق المجتمعي والسياسي والأمن من الاضطراب الذي يحقق الاستقرار ويبدأ معه فكرة تكوين الحضارة.