دروس من مجزرة كفر قاسم
سهيل كيوان | فلسطين
خمسة وستون عاما مضت، وما زالت حكومات إسرائيل المتعاقبة ترفض الاعتراف بمسؤوليتها عن مجزرة كفر قاسم، التي ذهب ضحيتها ثمانية وأربعون شهيدا من رجال ونساء وفتيان كانوا عائدين من أعمالهم خارج البلدة.
لم تعترف الدولة بمسؤوليتها حتى الآن، وكلُّ ما قيل من قبل مسؤولين إسرائيليين حول المجزرة، هو تعبير عن الأسف لما حدث، أو الحديث على أنها ذكرى مؤلمة أو مخجلة إلخ، وجرى تحميل المسؤولية في نهاية الأمر إلى أخطاء بعض الجنود والضباط، الذين قرَّروا قتل القسماويين العُزّل بعد عصر التاسع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر عام 1956. وهو اليوم والتوقيت الذي بدأ فيه العدوان الثلاثي على مصر، واندفعت قوات الغزو الإسرائيلية إلى قطاع غزة وسيناء، وهذا يعني أن العلاقة كانت وثيقة بين الحرب والمجزرة والهدف الكامن من وراء ارتكابها.
بعض الوثائق التي كانت سرية، كشفت أن ترحيل سكان منطقة المثلث الجنوبي، كان واردا ضمن خطة جاهزة في حالة نشوب حرب مع الأردن، أطلقوا على الخطة اسم (الخُلد) ذلك الحيوان القارض، الذي يحفر تحت الأرض، وهَدفت إلى تفريغ القرى الحدودية مع الضفة الغربية في حينه من سكانها، ولكنهم لم يذكروا أين سيأخذون السكان! إلى معسكرات اعتقال، أم طردهم إلى دول عربية مجاورة.
لا يعترفون بالمسؤولية ولن يعترفوا، لأن سياسة الإرهاب ما زالت مستمرة منذ النكبة، فالتهجير تواصل بعد النكبة مثلما حدث لقرى الحولة عام 1949، ثم إلى عام 1967 عندما هدموا حي المغاربة في القدس، وهجَّروا سكانه، وهجَّروا مئات الآلاف من سكان الجولان السُّوري المحتل، وهجّروا وما زالوا يهجِّرون عشرات آلاف العائلات من خلال عمليات طرد سافرة، أو من خلال هدم بيوت وعمارات وإتلاف، أو سرقة محاصيل زراعية للفلسطينيين في الضفة الغربية، وهذا نهج لن يتوقف، لأنه يخدم الهدف الصهيوني الأوسع. لن يعترفوا بالمسؤولية لأن الاعتراف سيعني نهاية حقبة تاريخية من الصراع على فلسطين، وهذه لم تنته بعد، فالصراع ما زال على أشدِّه. لن يعترفوا لأن القيادات الصهيونية ما زالت قاصرة عن فهم التغييرات الحاصلة على الفلسطينيين أنفسهم، الذين باتوا أكثر استعدادا للمواجهة وأكثر وعيا بأنفسهم، وأن ترحيلهم لم يعد بالبساطة التي حدثت في ما مضى. لن يعترفوا لأن الاحتلال يرفض تسجيل أي إنجاز لصالح الفلسطينيين، ولأن جميع الحكومات التي مرت غير مؤهلة لهذه النقلة النوعية في التعامل مع مجازر الاحتلال.
الاحتلال يرفض أي شكل من أشكال المقاومة، حتى أكثرها سلمية، ولن يرضى إلا بأمر واحد، وهو اعتراف الفلسطينيين بأن هذا ليس وطنهم، وأنهم غرباء ومحتلون لفلسطين، وأن من حق الحركة الصهيونية التصرف، كما تشاء في كل سنتمتر من أرض فلسطين وما تسميه «أرض إسرائيل». يرفضون الاعتراف بالمسؤولية الرَّسمية عن المجزرة، لأن هذا يعني فتح جميع الوثائق السِّرية، وفضح القرار الكامن وراء المجزرة وهدفه الأساسي، ومن أعلى الهرم السياسي، وهو إكمال التطهير العرقي في كل فلسطين. يرفضون الاعتراف الرسمي بالمسؤولية، لأن هذا يعني أن يجري تدريس المجزرة في المدارس، وزيارة متحف المجزرة في كفر قاسم، وهذا سيؤدي إلى زيادة الوعي لدى الأجيال الصاعدة من الفلسطينيين بقضيتهم، وبوحشية المؤسَّسة الإسرائيلية، ورفض الانخراط بمخططاتها لتدجينهم من خلال مختلف برامج الأسرلة. لن يعترفوا لأن حلم التطهير العرقي ما زال قائما، وهناك أصوات واضحة في الكنيست تعلن بصراحة، أن المواطنين العرب هم حالة مؤقتة في إسرائيل، وأن مصيرهم يتعلق في عدة عوامل وظروف، وقضيتهم لم تحسم نهائيا بعد. من ناحيتها فإن الجماهير العربية تعلن أيضا أنها لم تعد أقلية ساذجة وضعيفة، وبأنها ليست لقمة سائغة، وبأن الأقلية المحطمة عام النكبة تغيّرت كثيرا، كمِّيا ونوعيّا، وبأنها تتكامل وتتواصل مع بقية أبناء شعبها مدركة وحدة المصير. والشعوب العربية باتت أكثر إدراكا، بأن الصراع في فلسطين هو جزء من الصراع على المنطقة وخيراتها والسيطرة عليها، ويمسُّ مصالح شعوبها، ولا أحد يسلم من شرور هذا الكيان، حتى أولئك الذين يهرولون للتطبيع معه.
سيأتي الاعتراف بالمسؤولية في يوم الاعترافات الكبير، عندما يصبح هذا الكيان عاجزا عن مواصلة استمراره في نهج الأبرتهايد، ويعترف بعجزه عن مواصلة السيطرة على ملايين الفلسطينيين، وعندما يسقط النظام العنصري بكل ما يمثله من موبقات.