في ميزان النقد.. المغالطات النقدية
د. أمل سلمان | ناقدة وأكاديمية عراقية
ربُّما تكون موضوعة هذه المعالجة النقدية متأخرة بعض الشيء وعذري للقارىء الكريم، أن مضمونها لم تقع عيناي عليه إلا مؤخرا . فقد أصدر الناقد العراقي والمفكّر جمال جاسم أمين في سنة ٢٠١٠، كتابه المعنون بـ(كتابة الجسد في المسكوت عنه، أدب المرأة في العراق أنموذجا)، يسعى فيه إلى تأكيد ثقافة النقد والمراجعة ، متخذا من موضوعة النسوية وأدب المرأة في العراق عينة دراسية، لاعتقاده بأنَّ هذه الموضوعة تحتاج إلى أكثر من كشف ولاسيما بعد التحولات الزلزالية التي اعقبت سنة ٢٠٠٣ ، هذه المدة التي يُراد لها أن تكون منصة صالحة لظهور الخطابات المقصية والمرأة من بينها بالطبع .
تلا ذلك أصدرتْ الأستاذة الدكتورة نادية هناوي، سنة ٢٠١٦ كتابها المعنون بـ (الجسدنة بين المحو والخط ، الذكورية /الأنثوية، مقاربات في النقد الثقافي)، تسعى فيه إلى تقويض بعض الكتاباتالتي توسم بأنها أدب نسائي شكلا ومضمونا، ومحاولة تصب في خدمة نقدية تأسيسية تسعى إلى مضاهاة التأسيس الفحوليوإن من بعيد،و قلب نقدية المؤسسة الأبوية، و تجلية أبعاد النسائية، وارتياد مفاهيمها وتقليب مساراتها .
وقد خصّت الفصل الأول بنقد الاستعلاء الذكوري في مبحثين،تناولتفي المبحث الأول، كتاب جمال جاسم أمين المذكور آنفا، حمل عنوان الأنشداد للمنظومة الذكورية ، وهو ما يخصنا في مراجعتنا النقدية هذه .
وقد أعلنت الدكتورة نادية سياستها في النقد قائلة: “إن الناقد ليس جلادا وفي الوقت نفسه ليس حكما وهو يهيم بإخضاع النصوص الأدبية لمشرط النقد ومبضعه واضعا إياها تحت مخبره بحرفية ومهنية عالية ” إلا أنّها وللآسف وقعت في شرك ما حاولت الابتعاد عنه ،عندما وضعت الناقد جمال جاسم آمين ضمن فئة النقاد المنضوين تحت لواء الحاضنة الأبوية ، وأخذت تجلده بكلّ ما أوتيت من سياط الحروف، متهمة إياه بغايات مدسوسة وصفتها بأنَّهاأشد خطرا وأكثر تعتيما ومخاتلة؛ لأنها تريد الانتصار للمرأة عبر إعادتها إلى وضعها الحقيقي الذي يتناسب مع تكوينها وطبائعها من جهة ،ويتواءم مع الآخر / الرجل من جهة .
وفي هذا الحكم حيف كبير وقع على عاتق الأستاذ جمال جاسم أمين، في الحقيقة استغربته، وأيقنت في قرارة نفسي بأنَّ الأستاذة نادية هناوي قد قرأت كتاب الأستاذ جمال بعين واحدة ونظرت إليه من زاوية واحدة وفسرته على وفق ما ترغب هي لا على وفق ما جاء في تضاعيفه. ولذا حاولت حصر النقاط الرئيسة التي وجهت إليه سياط نقدها وهي على النحو الآتي:
أولا : العنونة
جاء عنوان كتاب جمال جاسم أمين بكتابة الجسد في المسكوت عنه، أدب المرأة في العراق أنموذجا ” وهو كتاب بطبعة واحدة أصدرته دار سطور في بغداد سنة ٢٠١٠ ولم يطبع تحت اي عنوان أخر، إلا أن الناقدة حكمت عليه بأن العنوان حمل إقصاء مسبق للمرأة وتفريطا متعمدالدورها، وجاءت بعنوان أخر مغاير تماما فقد اشارت إليه تحت عنوان ” كتابة الجسد مكاشفات في النسوية وقراءات لنماذج من أدب المرأة في العراق ” ولعمري من أين اتت بهذا العنوان وبنت عليه حكمها؟ مشيرة بإن هذا الكتاب حوّى كلمات مفتاحية لاصطلاحات ثلاثة هي، الجسد والنسويّة وأدب المرأة ، في حين نجد أن الناقد جمال جاسم أمين، بنى كتابه هذا على عدد من المصطلحات التي تدخل في جوهر النقد النسوي وهي ، المرأة واللغة والكتابة والخطاب والجسد والعقل ،ووقف عند كل واحد منها بنقد ثقافي كاشفا أنساقها المخاتلة وبروح موضوعية ، تتناسب مع العنوان الذي اختاره ،وهناك فارق كبير بين عنوان الكتاب الأصلي والعنوان الذي وضعته الناقدة وبنت عليه أحكامها المسبقة وفي هذا اجحاف كبير .
ثانيا _ الإهداء
أهدى الناقد جمال جاسم أمين كتابه إلى زوجته قائلا ” إلى زوجتي وهي تسأل بنفاد صبر: متى ستهدأ؟” وفي هذا الإهداء نلمس نوعا من المشاركة الوجدانية فقد أضفى على زوجته صفات إيجابية متمثلةبالصبر والتحمل، وأنىّ لأنثى أن تتحمل فكر فيلسوف وتقلبات أديب من نحو جمال جاسم أمين، لكنالناقدة حملت الإهداء ما لا يحتمل فجعلته ” توكيدا قرائيا آخر لواحدة من مسلمات المركزية الفحولية وهي الاستعلائية فالكاتب ذات / مسؤولة ، وامرأته هي الموضوع / السائلة التي ليس لها إلا أن تسأل وتصبر من دون أن يكون مقررا لها أن تتلقى إجابة لتكون بذلك أوّل امرأة سيصادرها الناقد وهي الأقرب إليه ” وتجعل من هذا الإهداء دليلا على ثبوتية الطرح المركزي ومقصدية الناقد الحقيقية في رفض التنازل عن عرش المركزية وعدم القبول الاعتراف بالآخر إلا مهمشا ومذبذبا . أين التهميش يا دكتورة؟ وقد جعل من زوجته ذات / مشاركة ، ولو قصد ما ذهبت إليه لما أهداها عصارة فكره .
ثالثا /الغياب بيت المرأة
ناقش الناقد جمال جاسم، ثنائية الحضور / الغياب، وما ترتب عليهما من تأسيس إشكالي، وعلاقة ذلك كله بمفاهيم الكتابة النسوية، فربط غياب المرأة بالبيت الذي أسكنا فيه المرأة حتى أصبح طللا وأفرغنا الحضور من أي معنى، ولا شيء يخدش الحضور أكثر من غياب المرأة فأصبحت المعادلة الحضور/ الذكر، البيت /الذكر ، في مقابل الغياب /المرأة والطلل/المرأة.
فالحضور أستبد به خطاب الأقوى بينما ظل خطاب المُقصي المرأة مستترا بالظلام ، فالصراع هو صراع الخطابات وهو الذي يرتب مواقع القوة والحضور وهو الذي جعل المرأة تسكن في الغياب دائما ، والغياب طلل وليس بيتا ؛ لأنه ذكرى جسد غائب بينما البيت مثل حضوا مستترا للمرأة طاغيا للرجل ، إذن فالأزمة هي أزمة خطابات معرفية ثقافية أقصت خطاب المرأة وهمشته ،وهي حصيلة هيمنة الخطاب الثقافي المعبر عن طبقة اجتماعية متسلطة داخل المجتمع.
إلا أن الدكتورة نادية نظرت إلى هذه الفرضية من جانب واحد متسائلة باستنكار: “فهل القارىء بوصفه جزءا من المنظومة العتيدة لا يعرف مثلا أن غياب المرأة لا يكون إلا في البيت؟! “
ما هكذا تورد الأبل يا دكتوره ؟
رابعا / بين القلم واللسان
يرى الناقد جمال جاسم أمين، أن استئثار الرجل بالكتابة لم يبق للمرأة سوى أطلاق لسانها في فضاء الحكي ، هذا الفضاء الموصوف بالثرثرة الناشىء اصلا من ثنائية قلم/لسان ، فالذي يكتب كثيرا لا يُقال له (ثرثار)، بل الذي يتحدث كثيرا ، الأمر الذي فرض على المرأة هذه الصفة وما ترتب عليهامن تقابلات
القلم /تأمل ، اللسان / إنفعال ، القلم / أثر خالد /اللسان إنبثاق مؤقت ،القلم /فضاء مفتوح، اللسان /سجال ظرفي .
بناء على هذه الفوارق كلها أصبحت الكتابة هي التي تؤسس التجربة الثقافية بينما اللسان على هامش هذه التجربة ، فكيف تستطيع المرأة أن تستبدل اللسان بالقلم ؟
تستطيع ذلك عندما تدخل بهو الكتابة بوعي نسوي صادم من دون تقليد الرجل أو الوقوع فيما يريده منها من حيث لا تدري .
هذا الطرح المائز قوبل من الناقدة د.نادية بالقول ” وقد أسهم الرسوخ الذكوري في تحقيق تهميش نسائي أدى فعله في الاستحواذ على اللغة مفرغا ذاكرة المرأة من موروثاتها وواجدا في امتلاكها سطوة الحكي رد فعل على استلابها اللغوي ، فكان على الناقد بحسب د.نادية ، أن يتجاوز هذه الرؤية ليقلبها بالضد لتكون في صالح المرأة ؛ لأنه معني بالمرأة ، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مفاده ، هل على الناقد أن يُزور الوضع التأريخي للمرأة حتى نرضى عنه ؟ وهو يفخر بالكتابات النسوية يقول ” لقد تنبهت المرأة أخيرا إلى أهمية فعل الكتابة بعد أن حرمت منها قرونا طويلة حيث عرفت أنها الشيء الوحيد الذي يليق بنزاهة غرامها … يظهر مثل هذا القول عطش المرأة التأريخي للكتابة بوصفها فعلا ثقافيا مائزا ومهارة يدوية عضلية حرمت منها المرأة “
لكن ما تراه الدكتورة نادية ، أن هذا التفسير (حرمان أو عطش) استعلاء نقدي ذكوري يرى في المنقود /المرأة قصورا ودونية وانها لهذا قصرت مهاراتها على البيت كي لا تنافس الرجل.
خامسا / تقتطع الدكتورة نادية بعض النصوص من سياقها النصي وتستشهد بها على أفكار هي تريد طرحها لا الناقد
ففي سبيل المثال ، فيما يخص تأريخ المرأة العراقية يرى جمال جاسم أمين ، أن أنثوية الأنثى صناعة تأريخية، وهو هنا لا يقصد بالأنثوية الوضع الإجناسي للكائن بل الموقع الثقافي الذي يتأخر غالبا على الذكورة، بمعنى أن الوضع التأريخي الذي يرسم لهن هو المسؤول عن هذه التسمية وليس (الجنس) المرأة مرأة لأن تأريخها كذلك ، والمرأة العراقية تحديدا انسلخت من تأريخ داكن بالتخلف والأمية لتتحول إلى واقع دموي تتناوب عليه الحروب والحصارات ، وإذا كانت الأنثوية نتاج تأريخ ضاغط فأن تأريخ المرأة العراقية يعاني ما هو ابشع، المرأة التي ترعرعت في ظل قبلية لا تؤمن بأي حق من حقوقها بل تمارس ضدها (وأدا)معنويا ..
تأتي د. نادية وتقف على هذه الآراء وتذهب بعيدا في اتهام الناقد بأنه يتهم المرأة العراقية، بالضعف والعجز وأنها لم تقم بما ينبغي عليها فعله أو أنها ظلت رهينة قبيلة أو أسرة تمارس عليها فعل التهميش والإقصاء تقول:” وليس غريبا أن يأتي من نقادنا من يشطب هذه الحقائق في سياقها الاجتماعي والأدبي وفي مدلولها العلمي والنظري بجرة قلم ليدعي تعميما لا تخصيصا أن المرأة العراقية لم تقم بما كان ينبغي عليها فعله ” وترى أن جمال جاسم أمين ، يتناسى الدور الفكري الكبير الذي لعبته المرأة المتعلمة والبرجوازية ….وهو لم يقصد هذا النوع من النساء إنما قصد المرأة العراقية بشكل عام .
وهناك مسائل كثيرة أخرجتها الناقدة من مقصدها الذي أراده المؤلف الأستاذ جمال وبنت عليها آراء أرادت هي بثها في صفحات كتابها من قبيل ، اللغة أصل التميز والنسوية وأزمة الخطاب ومن نهار الحضور إلى ليل العزلة والمرأة ونقصها الضروري وتسليع الأنوثة …وغيرها من المسائل الحيوية التي لا يسعنا في هذه المراجعة العُجلى الوقوف عليها .
وآخيرا أقول:
إن النصوص الأدبية بشكل عام ومن ضمنها النقد تتحمل قراءات كثيرة وتأويلات واسعة، لكن أن نحملها اكثر من طاقاتها ونسحبها من مقصدياتها فهذا ما لايصح، ثم نهاجم قائلها ونضعه دون مكانه وننتصر لنقاد آخرين نقاد غربيين وعرب تمتعوا على _حد تعبير الناقدة _ بروح الإيثار وانقلبوا على مؤسستهم العتيدة في سبيل إعلاء شأن الآخر المؤلف فقوضوا وفككوا ودحضوا، ونعزل ناقدا عراقيا ومفكرا مختلفا ومهما ، من قبيل جمال جاسم أمين ، الذي جاء بآراء بكر وفكك ودحض وأعاد قراءة المنظومة النسوية بشكل عام والعراقية بشكل خاص فهذا ما لا يرتضيه النقد . .