بعد (عمران) البصرة !
عليّ جبّار عطيّة | رئيس تحرير جريدة (أوروك) العراقية
وصلتُ إلى قلب البصرة مساء الثلاثاء ٢٠٢١/١١/٢م بعد نحو ست ساعات بسيارة (الستاركز) التي قطعت نحو ٥٥٠ كيلو متراً بنحو ١٢٠ كيلو متراً في الساعة في طريق خالٍ من المعالم الحضارية، وغير مغرٍ بالسفر.
كل هذه الكيلومترات التي مررنا بها من الكوت والسماوة والناصرية والبصرة لم تُزرع ولم تُسكن، ويقال بأنها مناطق محرمة لأنَّ تحتها آباراً من النفط وهذا هو الذي يجعل إعمارها فيه مخالفة قانونية.
أفرحني ذلك وأحزنني في آنٍ واحدٍ.
أفرحني لأنَّ هناك استثماراً للأراضي المتروكة، وأحزنني أنَّه لا توجد آثار على الطريق لهذا الاستثمار.
تذكرت البيت الشعري الشائع :
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ
والماء فوق ظهورها محمول !
فتحت لي المدينة قلبها و ذراعيها وكشفت أوراقها.
تحمستُ للتجول في شوارع العشار فبدت عليها العافية والترف، وغابت صور البؤس والاهمال.
كان معي الشاعر نعمة عبد الرزاق الذي تقمص وظيفة الدليل السياحي بكل كفاءة لأنه عاش في البصرة أكثر من خمس عشرة سنة يتحدث عنها باعجاب ويقول: إنَّ البصرة لا تتعرف على جمالها إلا بعد مدة طويلة.
في زقاقٍ ضيقٍ قال لي الشاعر نعمة عبد الرزاق سنجلس قليلاً في مقهى الأدباء ذلك المقهى الذي يجلس فيه الشاعر كاظم الحجاج والكاتب محمد خضير.
لم أجد أياً من الكبيرين فعولنا على اللقاء بهما في أيام مهرجان المربد بدورته الرابعة والثلاثين الحالية .
أُقيمت النسخة الأولى من هذا المهرجان سنة ١٩٧١م في بغداد، وكنتُ وقتها في الصف الثاني الابتدائي أنتظر درس المحفوظات !
بعد خمسين سنة من تلك الدورة، وفي أرذل الطريق تُتاح لي الفرصة لأحضر المهرجان الذي كانت دوراته تتفاوت قوةً وضعفاً حسب قوة وضعف المدعوين بعيداً عن التخندقات الأيديولوجية، والتيارات الأدبية والتقلبات السياسية.
ليس من الموضوعية أن ننتظر شخصيات مربدية مثلما كان الحال في النشأة الأولى للسوق الشعري من طراز جرير والفرزدق وبشار بن بُرد وأبي نواس، الجاحظ والكندي وسيبويه والأصمعي والفراهيدي كما ينقل لنا التاريخ أنهم كانوا من رواد السوق ، كما لا نبالغ ونطالب بحضور شعراء الزمن الصعب كالجواهري وسليمان العيسى، ومحمد الفيتوري، وسليمان الأحمد ومحمود درويش، ونزار قباني، وعبد الله البردوني.
لنكن متواضعين ونقول:
بعد ظروف الجائحة التي قلبت الموازين يكون لهذه الدورة خصوصية أنها تعلن عودة الروح إلى جسد الثقافة الحضورية لا الافتراضية.
سيعرف الأدباء والشعراء والكتاب أنهم حين يتجشمون العناء فإنما يستحق الأمر ذلك بكسر الايهام، و التلاقي الإنساني الثقافي.
هاهم المربديون يقولون: إنَّ الحياة الثقافية تسترد عافيتها، وهي قادمة بقوة مثقفيها الأصيلين صناع الحياة.
والرسالة الأهم أنَّ البصرة في عمران مستمر وجئناها بعد مرحلة عمران لا خراب !