الاستخلاف والتمكين والإعمار (2)

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

وقد وردت لفظة الإعمار في صيغ متعددة في القرآن على هذا النحو:” وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب”.. “أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر” .. “أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)”[الروم].

“وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)”[هود].

والتعمير هنا له معان متعددة، فمن (التعمير) بمعنى إطالة الأمد (العمر)، وبمعنى العمران أي الإبقاء والإمهال حتى يكون لهم في الأرض من الأثر ومظاهر الحضارة ما يجعلهم أهلا لتدبر نعم الله، الغارقون في أوصالها، والمترفون بعطاءاتها، والمتمتعون بما تغذوهم به في كل لون من ألوان الحياة .. ومن ذلك ما ضرب الله المثل به لقوم فرعون في قوله: “فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)”[الشعراء]، وقوله”كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)”[الدخان].

جاء في بحر العلوم للسمرقندي”وقال أهل اللغة: النِّعمة بكسر النون هي المنة، واليد الصالحة، والنُّعمة بالضم هي الميسرة، وبالنصب هي السعة في العيش. ثم قال: كَذلِكَ يعني: هكذا أخرجناهم من السعة والنعمة وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ يعني: جعلناها ميراثاً لبني إسرائيل”.. وقال الشيخ الشعراوي: أن النعمة بالفتح هي حياز النعمة بالكسر مع إمكان التمتع بها مع وجود الصحة البدنية والنفسية التي تتيح ذلك، وقد كان هذا مدعاة لطغيان فرعون وملائه أن أفاض الله عليهم من هذه النعم ما يستوجب شكر المنعم والتقرب إلى الله به، فلم يفعلوا ؛بل استعانوا بها على ما محادة رسوله، والتعاظم مع السخرية والتعالي في الأرض والإفساد، فقال “وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)”[الزخرف].

ولذا.. كان هذا التوبيخ الرباني حين يتبوأ الباغون منازلهم من جهنم مستصرخين فيها، فيجابوا أن زمن الإمهال وفرصته قد أتيحت لهم في الدنيا بما يستحث صحيح النفوس وفهيم العقول أن تتذكر فيه، فتذكر نعمة ربها ومداده الذي أمدها به في كل شهقة وزفرة، آناء الليل وأطراف النهار؛ غير أن لم يكن لهم تذكرة ولا تبصرة مع أن مدة الإمهال كانت تستوجب فعل ذلك مع توفر الوعي العقلي مع المسع والبصر والفؤاد؛ ولكن لا شيء من ذلك يغني إذا حقت كلمة العذاببدواعي الغفلة والغرور والتناسي لعظيم نعم الله..

إن لهذا العمران أو (التعمير) بشكليه (العمٌري)، و(الحضاري) ثمة أسباب وعوامل لم يكن الإنسان في غفلة عن مواردها ومصادرها، ولا عن المنعم الذي من بها، والتي عددنا منها سابقا من “الإيجاد(الإنسان) والأرض والزمن”، وهي التي يقوم بها عامل العمران؛ وليس كما جحد بعض الهالكين كقارون حيث قال “إنما أوتيته على علم عندي”، فأين رزقة العقل والعلم فضلا عن أسباب الكون والأرض التي استخلص منها ذهبه وكنوزه.. ترى من أين كان يتأتى له هذا العطاء لو لم يكن العطاء الأول بأسبابه المعلنة والبدهية التي لا يجسر على إنكارها بر ولا فاجر؟

هكذا بادت الأقوام الأول (عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع وسبأ وأقرانهم ) هكذا بادوا حين حقت عليهم قوانين السنن التي ما فطنوا أن يتدبروها ويعملوا لمقتضاها حتى لا يذوق بعضهم بأس من سبقهم، ولا يحيق بأحدهم ما حاق بصاحبه، وقد كانوا على منحة من العقل والفهم والعمل الذي يمكنهم من تدارك أنفسهم ألا يصيبهم ما أصاب من قبلهم .. لكنهم أبوا إلا أن يتعظوا بأنفسهم لا بغيرهم.

“وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)”[الأحقاف].

أما التمكين الحقيقي الأبدي فهو لن يكون إلا كما أراد الله خالق الكون (للصالحين ) من أهل الأرض حتى ولو اقتضت سنة التبديل أن يقوم على أمرها ــ زمنا ـــ قوم ليسوا من أهله، وهذا غالبا ما يكون ليس حظوة لأهل الإعراض والإفساد، إنما عقابا لأهل الإيمان الذين ألهتهم وفرة النعم وإسباغها عن شكر المنعم والقيام لدين الله بما هو أحق به، فيجعل الله عليهم مدار الدوائر ودوال الدول كي يثوبوا إلى منهجهم الذي استحقوا به الريادة والسيادة ، وقد نجد هذا جلي في نصوص القرآن:

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) [الأنبياء].. وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)[الصافات].. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)[إبراهيم]..

فسنة التمكين لا تحكمها قوانين الأرض وأسبابها مهما تبين لنا من مسار أحداث التاريخ والحضارة من ذلك، لكنها محكومة ومحكمة بأسباب السماء وإن بدت لنا في ظاهرها غير ذلك، وإن الله لما خلق الإنسان على فطرة التوحيد، واستخلفه في الأرض فقد جعل له لذلك منهجا يحكم به ويحتكم إليه في كل دقائق حياته وعظائمها، وما كان الله ليترك الإنسان من غير منهج، ليفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل.. وإذا كان من نوع الإنسان من قد اشتط عن مألوف الكون ونواميسه وفطرته، فإن الله لم يجعل له حكما عليها وإنما جعل إمرة الصالحين والمردة سواء لأهل الإيمان والمصحلين الذين يحكمون بالمنهج الذي أنزل الله، حتى يكون ذلك حافظا للأرض ومبلغا رسالة الله في الكون والإنسان.

يقول جارودي “فآيات الله في صحائف الكون تتلاقى مع آيات الله في صحائف الوحي تلاقيا يجعل النظرة إلى الكون أسمى، وهذا العقل المؤمن لا يعجز عن تحليل الروابط التي تصل الأشياء بعضها ببعض، والتي تقود إلى القوانين العلمية الشائعة في الوجود، وإنما يمتاز العلم المتدين بأنه يضفي على هذه القوانين معنى أشرف”

ويقول “إنها قوانين دنيوية بالنظر إلى العلاقات التي تسودها بيد أنها دينية رفيعة القدر عندما نلحظ صلتها بالخالق”.. (1)

المصادر:

  1. (سر تأخر العرب والمسلمين. الشيخ محمد الغزالي).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى