النقدُ .. وإشكاليَّةُ المفهوم بين نقدِ المعنى ونقدِ المبنى
د. عاطف الدرابسة – كاتب وناقد أردني
ينبغي أن نعترف ابتداءً أنَّ النقد مفهوم إشكالي ، مفتوحٌ على الحوار، والنقاش ، ولا يمكننا أن نتوقَّع بلوغَ حالةٍ يقينيَّةٍ حوله ، لكنَّ الأمر المهم أنَّ الناقد يمكنه أن يقدِّم تعليلاً لرأيه الأدبي، هذا التعليل متاح دائماً لأنَّ النقد في الأصل متصل مع حقول المعرفة ، فهو يتصل بالتاريخ، ويتصل بعلم الاجتماع، ويتصل بعلم النفس، ويتصل بعلم الإنسان، ويتصل بالأيدولوجيا ، ويتصل بالفلسفة ، ويتصل بالدِّين، كما أنَّه في الوقت نفسه يتعامل مع شكل، وهذا الشكل هو بناء لغوي وفق أساليب مختلفة، ولعلَّنا يمكن أن نقول بثقة: إنَّ الشكل هو الذي يُثيرُ جدلاً حاداً في النقد ، فالشَّكل الأدبي في حركة تغيُّرٍ مستمرة، والتغيُّر في شكل الأدب غالباً ما يكون على مستوى الأسلوب، أو الأداء من نحوٍ، وعلى مستوى الوظيفة من نحوٍ آخر .
ويمكننا تاريخياً أن نؤصِّل لمسألة الشكل ابتداءً من الفلسفة اليونانية، من خلال مفهوم المحاكاة، باعتبارها قانوناً للخطاب، فالنظرية النقدية إلى اليوم ما زالت تدور حول الرؤيتينِ المتضادتين لأفلاطون، وأرسطو، أي بين فكرة عالم الحقيقة، وأعني به هنا عالم المُثل والأفكار المجرَّدة عند أفلاطون، وعالم الخيال أو العالم الرمزي عند أرسطو .
هذا الجدل بين أفلاطون وأرسطو يؤول في النهاية إلى موقفين: موقف أفلاطون الذي يُقيِّم الأشياء خارج ذاتها ، أي في عالم الحقيقة والواقع ، وأرسطو يستنبط الشعور من الشيء ذاته، أي بمعنى أنَّ أفلاطون يضع الشروط من الخارج ، أي التأمُّل العقلي المجرد، والثاني يكتشفها من داخل الفن نفسه، ولو تأملنا الآن النظريات والقراءات النقدية ، لوجدناها تدور حول محورين: الأول ينظر إلى العمل الأدبي بوصفه موضوعاً معرفياً؛ فيُسقطه في حيِّز التاريخ، وعلم النفس ، والأيدولوجيا، والفلسفة، وعلم الأخلاق، والآخر ينظر إليه بوصفه تجليَّاً لبنية مجرَّدة ، لا يمكننا أن نُسقِطها خارج ذاتها ، فظهرت البنيوية ، وما بعد البنيوية .
ومهما حاولنا أن نُقيمَ حدود للنظرية النقدية ، فإننا لن نخرج عن ثنائية: الماهيَّة والشكل ، أو المعنى والشكل ، وهي مسألة ما زالت إلى اليوم تُثير جدلاً، ونقاشاً حاداً ، فظهرت دراسات نقدية تُعلي من شأن المعنى ، ونظريات نقدية تُركِّز على البِنية ، أو الشكل، غير أنَّ الأمر في عصرنا هذا أخذ بُعداً آخر بعد عصر التنوير ، وتحديداً عند البِنيويين ، فهم بتوجيهٍ خاص من الليبيراليين ، ومن الرأسماليين، أرادوا تقويض فكرة المعنى ، لأنَّ الأشياء التي لها معنى ترتبط على نحوٍ ما بمفاهيم مثل: الهوية ، القيم ، الدين ، المعتقد ، العادات، فجاءت البنيوية انسجاماً مع الأفكار التحررية، وتطلُّعات الرأسمالية ، لمجتمعاتٍ مفتوحة، لتقوِّض فكرة (المعنى) ، من هنا يُمكننا أن نفهمَ هذا الصراع الحاد بين الماركسية، والبنيوية ، أو الأدب الملتزم والأدب المُتحرِّر .
كما يمكننا أن نفهم في الوقت نفسه فلسفة التفكيك ، أو فلسفة الهدم ، فالتفكيك كانت الحلقة الأخيرة في عملية تقويض فكرة المعنى ، على اعتبار أنَّ الاهتمام بالمعنى يعني أنَّ الكاتب يحمل على كاهله قضية ، أو على الأقل أنَّ الكاتب يلتزم بقضايا مجتمعه ، أو أمته .
هذه الرؤية تقودنا حتماً لمفهوم الرعاية في الأدب، كما تقودنا في الوقت نفسه إلى الحديث عن الخطاب : إنتاجه ، رعايته ، تسويقه ، والشريحة المستهدفة .
على هدي من هذه الرؤية يمكننا أن نفهم مثلاً كيف ينتشر اسم كاتبة مثل أحلام مستغانمي، انتشار النار في الهشيم ، وكيف تحصل كاتبة ما على جائزة ما ، مع أنَّ العمل الأدبي أبعد ما يكون عن الشروط الفنية ، والموضوعية ، التي تجعل منه شكلاً أدبياً على الأقل .
من هنا يمكننا أن ننفذ إلى العلاقة بين الناقد والمبدع ، فإذا كان المبدع واقعياً ، ملتزماً ، وتصدَّى لقراءته ناقد بنيوي ، أو تفكيكي، وفق قواعد ، واتجاهات النقد الحداثي ، فإنَّ هذا المبدع سيكون متهماً بدفاعه عن قضيته، وعن مبادئه ، ولو كان الكاتب تفكيكياً ، يسعى إلى هدم مقومات هويته ، والحطِّ من شأن قيمه الأخلاقية ، والدينية ، وتصدَّى له ناقدٌ يُمثِّلُ مبدأ الالتزام ، فإنَّ المبدعَ سيتهم ذلك الناقد بعقم الرؤية ، وبأنَّه لا ينظر إلى العمل الأدبي من حيث قوانين تشكُّله اللغوي .
إنَّ الناقد المعني بالمعنى يتضادُّ مع الناقد المعني بالمبنى ، الفجوة كبيرة بين نقد المعنى ، ونقد المبنى ، فجاءت نظريات القراءة والتأويل، لتهدم هذه الفجوة بين نظريات المعنى ، ونظريات المبنى ، وتنادي بفكرة أنَّ القارئ هو مَن يُنتج المعنى .
الإشكالية هنا في مفهوم القارئ نفسه ، أو المتلقي ، إنَّ رمي العمل الأدبي في مرمى القارئ مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ القارىء قد يكون من الجمهور، أو قد يكون من المُتخصِّصين، هذه العملية ستؤولُ بنا حتماً إلى ما يُعرف بفوضى القراءة ، والتي أصبحت فيما بعد الفوضى الخلَّاقة ، لا أعرف إن كانت هذه الفوضى خلَّاقة أم مُميتة ، فها أنا أرى الفوضى في العراق ، وليبيا ، وسوريا ، واليمن ، ولبنان ، إنَّ ما يحدث الآن هو فعل اللغة ، وصراع التأويلات .