جمِّلْ كلامك بالقرآن ( 7 )
أ د/ هدى مصطفى محمد | أستاذ المناهج وطرق التدريس – كلية التربية – جامعة سوهاج
هناك بعض العبارات والأقوال التي نجد أنفسنا نرددها في بعض المواقف ، وهذه الأقوال قد تكون أمثالاَ شعبية، أو أقوالاُ مأثورة والأجمل أن تكون آيات قرآنية أو أحاديث نبوية. وترديدنا لهذه الأقوال يأتي في سياقات لغوية مختلفة ، ويأتي دائماً لتدعيم مانقول بأدلة واستشهادات . ونأمل دائماً أن نكون موفقين في اختياراتنا لهذه الأدلة، لتكون مناسبة للسياق ، ولعل أول طرق التوفيق هو التعرف إلى المعاني الصحيحة لهذه الأدلة وسياقاتها أو مناسباتها .
ومن هنا جاء هذا الطرح للآيات القرآنية التي يكثر استخدامها في أحاديثنا وكتاباتنا لنتعرف سياقاتها أو مناسبة نزولها وفي هذا إعادة نظر للحكم على صحة استخدامنا إياها، فقد يتحقق تصحيح فهم لدى البعض ، وكذلك إدراك لمدى ما نستخدمه من القرآن في أحاديثنا وقد تكون بداية للإكثار من ذلك فنجمل أحاديثنا بالقرآن ، كما أن معرفة المعاني ستزيد من إدراكنا لكثير من السور التي نقرأها وبذلك يتحقق عنصر من عناصر التلاوة الشرعية وهو التدبر في معاني ما نقرأ ، ولعل الفهم لبعض الآيات ييسر التلاوة ويحببنا فيها ويعين على الحفظ لمن أراد؛ فالفهم من العوامل المهمة التي تساعد على حفظ القرآن والارتباط به.
ونستكمل ما بدأنا من قبل ومعنا آيات اليوم من سور التوبة ويونس وهود : قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ}التوبة / 18
جاءت هذه الآية لاستئناف الكلام ليبين ما سبق، فقد جاء قبلها ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله، فجاء هنا التوضيح لمن لهم الحق في إعمار المساجد، وهو التعبد فيها وقيل إن العمارة تعني الدخول والقعود بالمسجد وجاء بأسلوب القصر لإقصاء فرق أخرى عن أن يعمروا مساجد الله من غير المشركين فاليهود والنصارى آمنوا بالله واليوم الآخر ولكنهم لم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة على النحو الذي جاء بالإسلام ، وقصر الخشية على التعلق بجانب الله تعالى وهذا لا ينفي الخوف من أشياء أخرى كالعدو أو الحيوانات المفترسة، أما المشركون فهم يخشون شركاءهم وينتهكون حرمات الله لإرضاء شركائهم. وأهل الكتاب يخشون الناس ويعصون الله ويجارون أهواء العامة . وكان أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – يقولون “إن المساجد بيوت الله في الأرض ، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها “.
ويأتي استخدامنا لهذه الآية بالمعنيين الواردين، بل وقد نبالغ أحياناً عندما ننعت بهذه النعوت (الايمان بالله واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وخشية الله وحده) كل من سعى لتعمير مسجد بالبناء أو الترميم وليس من يتعبد فيها فحسب كما أشارت الآية، وهنا نشير إلى أنه ذهب البعض أن العمارة المعروفة من بناء المساجد ومرمته عند الخراب يمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لاتمتثل.. قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} التوبة / 105
جاءت هذه الآية عطفاً على الآية السابقة لها {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} التوبة /104 التي فيها إخبار عن قبول التوبةفجاء الأمر وقل لهم اعملوا أي بعد قبول التوبة ،فإن التوبة تركت مدة فارغة من العمل الصالح ؛ ولذلك على من قبلت توبته أن يزيد من الأعمال الصالحة ليجبر ما فاته من الأوقات ، ولذلك جاء الأمر بالعمل عقب الإعلام بقبول التوبة للتدليل على صدق توبتهم وفرط رغبتهم في الارتقاء إلى مراتب الكمال حتى يلحقوا بالذين سبقوهم.
ويرى البعض أن الآية تأتي في سياق الوعيد للمخالفين، بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول – صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين -، وهذا كائن لامحالة يوم القيامة.
تستخدم هذه الآية في خلق الدافعية نحو العمل الصالح ، فلا يأتي الأمر من الله إلا بكل ما هو صالح ويحمل دعوة للعمل عامة ، وليس العمل الذي يتبع التوبة فقط كما هو وارد في بعضالشروح.. قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمبِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} التوبة / 128
ساد سورة التوبة الشدة والغلظة على المشركين، وأهل الكتاب، والمنافقين من أهل المدينة والأعراب وأمر بالجهاد . فجاءت خاتمة السورة لتذكر بالمنة ببعثة الرسول – صلى الله عليه وسلم – والتنويه بأنه من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم بصفاته الجامعة للكمال. ومن أخصها حرصه على هداهم ورغبته في إيمانهم ودخولهم جامعة الإسلام؛ ليكون رؤوفاً رحيماً بهم . وهو في ذلك استخدم حرفي التأكيد اللام، قد . وقد جاء في هذا السياق ما قاله جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي والمغيرة بن شعبة “إن الله بعث فينا رسولاً منا نعرف نسبه وصفته ، ومدخله ومخرجه وصدقه أمانته “.
يأتي استخدامنا لهذه الآية في المعنى الصحيح فتأتي في مقام مديح رسولنا الكريم وأنه يحرص على أبناء أمته لأنه منهم ، وقد يمتدحه البعض بالقراءة للآية من أنفسكم بفتح الفاء لأنه الأفضل والأشرف والأنفس عليه الصلاة والسلام.
وقال أبي بن كعب إن هذه الآية إلى آخر السورة آخر مانزل من القرآن ، وأن الآيتين: هما أحدث الآيات بالله عهداً.. قال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ” يونس / 26 “
قيل في زيادة : هي رفعة الأقدار، وقيل هي رضا الله تعالى، وقيل هي رؤيتهم الله تعالى. وقد أخبر الله تعالى أن من أحسن العمل في الدنيا الإيمان والعمل الصالح ، وأن له الحسنى في الدار الآخرة ، كقوله تعالى ” هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ” وزيادة تشمل تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك ، ويشمل ما يعطيهم في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم وما أخفاه لهم من قرة أعين.وهناك من يرى أن الحسنى هي أن الحسنة بمثلها ، وزيادة هي التضعيف عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
والمعنى الأخير هو الأكثر شيوعاً في استدلالنا بهذه الآية للدلالة على مضاعفة الأجر والثواب للحسنى.. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} يونس / 44
يروى عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل ، يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا إلى أن قال في آخره يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه .
وفي هذا الحديث القدسي تفسير وافٍ لمعنى الآية بأن الجزاء يأتي نتيجة العمل ، ولذلك إذا ما كان العقاب فهو عقاب مستحق فقد فعل الإنسان ما يستوجب العقاب، وحينها لا ننظر إلى العقاب بمعزل عن المخالفة التي استوجبته . فالله المتفضل العادل أما الناس فقد يظلمون أنفسهم بالكفر والمعصية… يأتي استخدامنا للآية بالمعنى الصحيح.. قال تعالى:{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} يونس / 62
هذه الآية تسلية لنبي الله صلى الله عليه وسلم لما يلاقيه من الكفار من أذى أو تهديد ، وبشرى لأولياء الله بأنهم لا يخاف عليهم خائف ، وهنا نفي لجنس الخوف لأن ” لا” إذا دخلت على النكرة دلت على نفي الجنس، وهذا لا ينفي أن يصيبهم أو يهجس في نفوسهم الخوف الذي يصيب البعض كالخوف من الأعداء، ولكن إذا ما اعتراهم الخوف فلا يلبث أن يزول وتحل السكينة محله. أما من يعلم حالهم لا يخاف عليهم لأنه ينظر إلى الأحوال بنظر اليقين سليما|ً من التأثر بالمظاهر .
ثم جاءت الإشارة إلى الحزن لما يصيبهم من أمور الدنيا وهو حزن وجداني لا يستقر بل يزول بالصبر ، ولا يلحقهم الحزن الدائم وهو حزن المذلة وغلبة العدو عليهم وزوال دينهم وسلطانهم. والكلام يفيد أن الله ضمن لأوليائه أن لا يحصل لهم ما يخافونه و أن يحل بهم ما يحزنهم.
ولقد اختلف المفسرون فيمن يستحق أن يكون من أولياء الله؛ فقال بعضهم هم الذين ذكرهم الله ووضحهم بعدها ” الذين آمنوا وكانوا يتقون ” وقال قوم : هم المتحابون في الله عز وجل.. ويأتي فهمنا واستدلالنا بهذه الآية بالمعنى الصحيح… قال تعالى:{وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ” يونس / 107
في الآية إبطال عقيدة المشركين أن الأصنام شفعاء عند الله ، وتوجيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه أولى الناس بالخير ونفي الضرر ، فيعلم أن غيره أولى بهذا الحكم وهذا المقصود .
والمس في حقيقته وضع اليد على جسم لاختبار ملمسه ، وقد عبر بالإرادة مبالغة في سلب المقدرة عمن يريد معارضة مراده تعالى كائناً من كان بحيث لا يستطيع التعرض لله .ففي الآية بيان أن الخير والشر والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده ، لا يشاركه في ذلك أحد فهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له.. ويأتي فهمنا واستدلالنا بهذه الآية بالمعنى الصحيح… قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} هود / 114
الخطاب في الآية للرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتناول جميع الأمة ، والإشارة إلى أن الله جعل الحسنات يذهبن السيئات. وإذهاب السيئات يشمل إذهاب وقوعها بأن يصير انسياق النفس إلى ترك السيئات سهلاً ، كما قال تعالى ” إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ” وبذلك يكون خصائص الحسنات كلها كما يشمل أيضاً محو إثمها إذا وقعت. ويقصد هنا بالسيئات الصغائر التي هي اللمم ” إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم “.
وهناك من يرى أن المقصود بالحسنات هنا الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات ، وهذا المعنى يتماشى مع قوله صلى الله عليه وسلم :” الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر “
يأتي استخدامنا للآية على أن الحسنات تأتي بعد السيئات فتذهب بها وتمحو أثرها ، وليس هذا هو المراد من الآية فقط بل المراد أيضاً أن الحسنات تمنع وقوع السيئات .
وللحديث بقية ،،،
زادكم الله علمًا بروف هدى مصطفى، ونفع الله بكم وبعلمك.