ضوضاء بائسة في الشارع الثقافي
د. محمد أبو السعود الخياري | القاهرة
ضوضاء غير ملهمة وفوضى منظمة محكمة وكساد محزن يطغى على كل من في السوق .
سنوات عجيبة وعجائبية تكتنف سكان الشارع الثقافي؛ سواء ذوي الأملاك أو الساكنين بالإيجار؛ المبدعين والمزيفين، المناضلين والكاذبين، الناجحين والتائهين … الشباب والشائبين. كل واحد أخذ نصيبه من الحزن، واستوفى من الغثيان؛ وبات الجميع في وضع الاستعداد لمنازلة جديدة وخلاف عظيم على لا شيء .
اللاشيء هو الحقيقة الواضحة والممكنة في الشارع الثقافي المعاصر . وبعدما اقتسم الجميع اللاشيء هرعوا جميعا إلى البحث عن وسيلة ممكنة لتمكينهم من رقبته والظفر به . الظفر بماذا ؟! باللاشيء . فمن أجله شهد الشارع جولات بشعة من العراك الحاد الذي أخرج الروائيين إلى الشرفات مضحين بالحبكة التي كانت على مقربة ؛ وبالشعراء الذين أضناهم انقطاع الوحي … لا بأس فإن شجار الشوارع أكثر متعة وإثارة ومصداقية ؛ كما أنه مصدر للمخيال الروائي الذي تجافيه الواقعية النابضة بالحياة؛ كما أنه صدمة كهربائية لقلب الشعر الذي تبعثر نبضه وخربت ذاتيته … هذه الخناقات الصادقة الكاشفة قادرة على الكشف وإزالة الستر … هيا بنا نتفرج مجانا ونتابع كيف يتبادل المثقفون العداء ؛ أو كيف تبدو سحنات المثقفين حال خلافهم في الرأي .
عاش المثقفون قبل الغزو الكوفيدي بشهور يحبسون أنفاسهم وهم يتابعون بشغف فاق متابعة العوام لمباريات محمد صلاح تلك الصخور المتقاذفة بين سكان المبنى المقدس بالزمالك الذين قاموا بتأجيل انتخاباتهم حتى أضحى الناس حولهم كالمتنبي يترقب وعود كافور ( أنا الغني وأموالي المواعيد ) ، بيد أن هذه الحجارة والتأجيل المتوالد كحقل من الأرانب تصدى له نفر من الكتاب الذين بادلوا الحجارة بالحجارة … ومن منصة مسؤول سابق بوزارة الثقافة بدرجة رئيس قطاع خرجت التهم المدعمة بالصور الزنكوجرافية ؛ والسخرية الموجعة من كل الحاكمين في مبنى حي الزمالك ؛ سخرية تستمد خيالها من الثقافة الشعبية . غادر مسؤول الثقافة مكانه وهدأ صوته ، وتوفى الله واحدا من مبارزيه ؛ وما يزال أهل المبنى العظيم بالزمالك ينافسون الزمان في الصمود والتجدد .
في جانب هادئ من الشارع ؛ حيث يعيش الناشرون في هدوء الكساد ونوبات متقطعة من الأعلى مبيعا شبت النار فجأة !
الدار الشابة التي أكلت الجو في غفلة من أسطوات النشر ، وجمعت الشريحة العظيمة والساخنة من القراء في جيبها – شريحة الشباب – هي الآن في مرمى هجوم فتاك ومفاجئ وبدا مع الوقت أنه مرعب .
تركز الهجوم الذي شنه بمفرده متدرب صحفي – حسب وصف من تصدوا للرد عليه – في التأكيد للرأي العام بالشارع الثقافي وكل الشوارع الخلفية أن العصير الذي تقدمه الدار الشابة المكتسحة ( فيه سم قاتل ) وعلى الجميع لفظه ؛ ومن تورط وشربه عليه بمطهر معوي مركز .
إلى ساحة مرعبة جرجر الباحث والمتدرب الصحفي الدار بانها تنشر لكتاب من خارج مصر وأحيانا من داخلها يؤمنون بأفكار محظورة ؛ واستعان في حملته الحربية بلقطات شاشة (سكرين شوت) لصفحات هؤلاء الكتاب عمرها من عمر طفلة في الصف الرابع الابتدائي (تدرس المنهج الجديد) يبرهن بها على ميولهم نحو تلك الأفكار في تلك الأيام . وكان المثقون في أنحاء الشارع الطويل قد حبسوا أنفاسهم في لحظة إثارة تاريخية نشر خلالها الباحث أسماء كتب عديدة من صفحة الدار وتعريف بالكتاب من على صفحة الدار مفادها اعتناق بعض الكتاب لتلك الأفكار أيضا ؛ وقام بمنح الدار مهلة زمنية – الخامسة مساء- لحذفها جميعا … ووسط وقوف الجميع في البلكونات على أطراف أصابعهم وقد تركوا الدنيا خلفهم وهم يتابعون (توم وجيري) إذا الجميع يشهقون معا عندما رأوا صفحة الدار قد أزالت ما أشار إليه الباحث قبل بلوغ عقرب الدقائق الساعة الخامسة !
ردود هادئة – وللحقيقة مرتبكة – واجهه بها مؤسس الدار ؛ ثم ما لبث، وجلس ودخل على الخط الروائي الملتحي الذي يعرف كيف يتعامل مع – المتدرب الصحفي وهو يملك متابعين على صفحته فوق المائة ألف، ويملك تاريخا من الصداقة السابقة مع صاحب الهجوم على الدار. انتقلت الخناقة كما يقولون إلى (ليفل) أعلى؛ فالمتبارزان صداقة قديمة ؛ ويملكان أوراقا متوازنة؛ ما حقق توازنا في الرعب وتكافؤا في كشف المستور؛ حتى صار الأمر : اسكرينه باسكرينه ، سرّ بسرّ ، متابعين بعشرات الآلاف بمتابعين أكثر من مائة ألف ، صدق بصدق ، كذب بكذب ، نابلم بنابلم .
النقاد هم ( عوازل ) الشارع الثقافي ومستضعفوه وحائطه المائل ؛ وكلما أتيحت الفرصة لواحد من المبدعين ليتحدث عن النقد في مصر يردد : النقد يمر بأزمة ، والنقد في بلدنا يحتضر ، والنقد غائب وتائه وإن حضر فهو مغرض أو نفعي أو سطحي أو أكاديمي اصطلاحي لا يفهمه منا أحد .
وهل ستعيش الساحة الثقافية هكذا ؟! شعراء وساردون يكتبون ولا يسأل فيهم أحد أو يعبرهم أحد ؟! لا يا صديقي المشكلة ليست في النقد ؛ المشكلة في النقاد .
هيا نحل الأزمة ونحل محل النقاد الذين لم يعد لهم محل من الإعراب .
على نوبات متقطعة إلا أنها صاخبة ؛ صاخبة جدا يمارس الكتاب النقد لبعضهم البعض ؛ وساعدت صفحات الفيس بوك بمجانيتها وقربها للكاتب ثم للقارئ في التو خلال الساعات الأربع والعشرين وبلا نهائية هذه الصفحات التي لن تقول لكاتبها : كفى ….. كل ذلك أغرى إله السرد برمي شباكه في بحيرة النقد ؛ وللحيتان اتجه مباشرة ليصوغ رؤاه النقدية في كتابات السابقين والمعاصرين ؛ من نجيب محفوظ إلى أشرف العشماوي؛ بل إلى الخمايسي نفسه لا أحد بمأمن من طلقات النقد أو شظاياه .
ولعل المثقفين يشعرون ببعض الهدوء والأنس مع إجازتهم الأسبوعية حيث تقدم لهم الشاشات برنامجا يخصهم وحدهم ؛ لكنه يخلو من بضاعتهم المتداولة منذ فترة ؛ يقضون ساعتين في المساء مع ثقافة نقية في جو هادئ وتدفق يخلو من التوتر وإن لم يخل من الثرثرة .
حسنا فعل المسائيون في الخميس والجمعة بتقديمهم كل هذا الاحترام لسكان الشارع الثقافي الذين أنهكتهم الخناقات وباتوا زبائن دائمين في المحاكم أكثر من المعارض والندوات . احترم برنامج المساء مع قصواء المخلصين من المثقفين وبحث عنهم في كل الشارع الثقافي الممتد بعرض مصر وطولها؛ لم يستسهل؛ فيمد يده لجيرانه بالقاهرة ؛ بل غادرها ليري الناس وجوها طيبة وبسيطة من المثقفين الذين لم تنعم عليهم الثقافة بذهبها؛ فأنفقوا عليها طوال العمر ؛ فقط ليظفروا بلقب أديب .
ينشغل الناس بأزمة الوباء اللفظي الذي أصاب الطرب وكان المهرجانيون هم الثغرة الجهنمية التي تسللت الألفاظ البشعة والصور الشيطانية منها إلى الأسماع والبصار والأفئدة؛ لكن الدنيا يا سادتي بالغة الخواء هناك في شارع الثقافة ؛ فقد اعتاد القوم على العنصرية – كفاكم الله شر العنصرية الثقافية – وهي المستوى الذي داس في طريقه آفتهم المزمنة التي اصطلح على تسميتها (الشللية)؛ كما أنهم أحباب وأصحاب ويجننوا حتى تحدث الكارثة ويخطئ أحدهم فيفوز بجائزة !
الجائزة هذه الفتنة التي دخلت مدينة المثقفين الغلابة فأغوتهم؛ وعصفت براحة بالهم، وأطارت النوم من عيونهم؛ كما فعلت ذات الخمار الأسود في فتكها بالراهب المتعبد !
هل تستطيع المعرفة أن تجلي الروح ؟ وهل يمكن للأدب أن يؤدب المجتمع؟ وهل بإمكان الخيال أن يغير الواقع؟ ثلاثة نعم؛ بشرط أن تبدأ هذه الأساطير – المعرفة والأدب والخيال – تأثيرها في منتجيها أولا ؛ هنالك سيتغير الجميع ، وتتغير الحياة .