العرب بين التليد والجديد
توفيق أبو شومر
سيظل قولي ساري المفعول وهو: إن العالم العربي هو العالم الذي يُهاجَر منه، لا إليه، فمعظم الدول العربية تنفي مواطنيها، وتُقصي كفاءاتها، وتُهجِّرُ شبابها، وكل ذلك بسبب غياب الديمقراطية بمفهومها الشامل، وليس بمفهومها السياسي القاصر، ومن بين أسباب التهجير أن معظم الأحزاب العربية هي كتائب سلطوية، أكثر منها مؤسسات خدمية ومعاهد ثقافية وفكرية!
علينا أن نعترف بأن العرب فشلوا في تطوير بناء نهضوي عربي مُرتكزٍ على أسس الحضارة العربية السالفة، وظلتْ الحضارة العربية محفوظاتٍ وأناشيدَ وطنية يُرددها طلاب المدارس في طوابير الصباح كمحفوظات تجرعوها غصبا وقهرا!
كما أن العرب لم يستفيدوا من تجارب الأمم الأخرى، ولم يدرسوا تطور العالم المحيط، ليعثروا على أسباب انتقالهم من عصور الانحطاط إلى الرقي والازدهار، وغدت دروسُ التاريخ عندهم مجرد حوادث ومعارك وتواريخ، ولم يتمكنوا من تحويلها إلى رحيقٍ مفيد فنيا وثقافيا وعلميا.
وظلَّت حضارة العرب في الأندلس مثلا بأشكالها وألوانها، مجرد تيجان وعباءات توضع على أكتاف أحفادِ مؤسسي الحضارة، ولم يتمكنوا من تحويلها إلى مصانع نسيج للآداب والفنون، ومعامل لاستحداث مضادات ثقافية حيوية،ومصادر للدخل القومي العربي.
أنا دائما أعود إلى أخبار ( أشتات) المجتمع الإسرائيلي، الذي هو مجموعات متناثرة ومتنافرة، ولكن المؤسسات اليهودية نجحت في إعادة صياغة أشتات المجتمعات باستخدام التاريخ والأدب والفلسفة ونظريات السياسة، ووضعت كل تلك الأخلاط في بوتقة واحدة وشرعت في صياغة شعبٍ جديد(طازة) وتمكنت من (لظمه) في مسبحةٍ واحدة، وتمكنت بعد ذلك من قيادته وتغيير مساره ليصبح في النهاية شعبا جديدا!
فقد وظَّفتْ إسرائيل أيضا الأحداث التاريخية قديمها وحديثها لتقوم بالصياغة، وأنا أقول أنهم لم ينجحوا حتى الآن في صياغة شعبهم فقط في إطارٍ واحد، بل إنهم نجحوا كذلك في توظيف (الشتات) في صياغة شعبهم، واخترعوا لهذه الأشتات لغة جديدة وثقافة جديدة، وربطوهم بحبلٍ صُرِّيٍّ إلى أعماق التاريخ، وأقنعوهم أنهم من السلالات المنتقاة، وأنهم هم أصل العالمين وسادتهم وأخيارهم.
وحيث أنني أواظب على قراءتهم، فإنا أرى أنهم قد انتقلوا من هذين الطورين إلى طورٍ جديد، فهم اعتادوا أن يطلبوا التعويضات عما لحق ( بأجدادهم) القدماء من ظلم واضطهاد!! ليس فقط في مجال ضحايا الهولوكوست والمجازر الروسية ضد اليهود، التي جرت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، بل إنهم اليوم يطالبون بتعويضات عما لحق بأجداد أجداد أجداد أجداهم منذ القرن الخامس عشر الميلاد، وبالتحديد عام 1495 في أسبانيا والبرتغال، عندما أقدم المسيحيون الأسبان بإرغام اليهود على اعتناق الديانة المسيحية، مما اضطر اليهود للرحيل من أسبانيا والهجرة منها بعد أن تعرضوا للتعذيب والقتل والتشريد، وكانوا يُسمون (المارانو)أو الكنفرسوس!!
إليكم الخبر الذي نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت يوم 24/11/2012 :
“من المقرر أن تمنح حكومة أسبانيا أحفاد اليهود السفارد ممن أرغموا على اعتناق المسيحية (المارانو) الجنسية الأسبانية، بعد أن هربوا منها منذ خمسة قرون، مع العلم بأن أحفادهم اليوم يعيشون في أمريكا اللاتينية وتركيا ولندن والقاهرة وإسرائيل، وكان الأجداد قد هربوا خشية القتل على أيدي المسيحيين الأسبان”!!
علما بأن مسلمي أسبانيا في التاريخ نفسه، ممن بقوا في أسبانيا تعرضوا لما تعرض له اليهود من قتل وتشريد ونفي ونهبٍ للممتلكات، وكانوا الأكثرية، وهم طائفة (المورسيكيون) .. هؤلاء العرب المساكين توزعتْ دماؤهم بين القبائل العربية، وأنا أعتقد بأن معظم العرب لا يعرفون عنهم شيئا!!
شكرا للباحث الأسباني مرثيدس غارثيا أرينال الذي نشر كتابا بعنوان(المورسيكيون) ومما جاء في الكتاب:
((أمر الكاردينال خيمينس عام 1499 بحرق الكتب العربية في غرناطة وأرباضها فجمعت المصاحف البديعة وكتب العلوم والآداب وأضرمت فيها النيران، ولم يستثن منها سوى ثلاثمائة كتاب في الطب والعلوم، وامرالملكان الكاثوليكيان بمصادرة كل كتب الشريعة والدين لتحرق في سائر مملكة غرناطة.
أصدرت الملكة خوانا 1511 أمرا للسكان العرب بتسليم الكتب العربية لقاضي المدينة.
أصدر فيليب الثالث عام 1609 قرار بطرد تسعمائة ألف نسمة للشاطئ الإفريقي، مات أكثر من مائة ألف في حوادث نهب وسلب وقتل( من كتاب الظروف الاجتماعية للمورسيكيين في أسبانيا تأليف جافير فلورنسو)) من كتاب مختاراتي الجزء الثاني للكاتب سيصدر قريبا
وأخيرا سأظل أتساءل:
” كيف نطلب من العرب أن يستعيدوا مجدهم التليد، وهم غير قادرين على وضع حجر واحد في مجدٍ جديد؟!!