جراحة المخ المكتئب
د. أيمن يوسف | أول اخصائي عربي لمتلازمات الفيبروميالجيا وال “إم إي”
مؤلمة هي أعراض الاكتئاب، وكثيرا ما لا يركع له دواء أو عقار أو تدخل طبي أيا ما كان، فيتمادى في نهش ضحاياه جسديا وإنسانيا، يذوب في الدم والأعضاء كفيروس كامن يفترس ما شاء ومتى شاء من روح وجسد الضحية، ويوصم المصاب بذنب لم يقترفه ولا يعلمه حتى الآن.
إنه الاكتئاب المقاوم للعلاج أو الاكتئاب العميق، أشرس أنواع الاكتئاب والذي يقاوم كافة العقاقير بأجيالها القديمة والحديثة، ويقاوم جلسات تنظيم إيقاع المخ الكهربائية، يقاوم العلاج الكهرومغناطسي ويقاوم جلسات الدعم النفسي والعلاج السلوكي المعرفي والتغذية العلاجية وكثير من الوسائل والتقنيات التي استجابت لها أنواع الاكتئاب الأخرى، فهل ثمة أمل لهؤلاء المصابين ولو خطوة في سبيل التعافي والتعايش والتكيف؟
بات التدخل الجراحي من أجل مداوة الدماغ المكتئب أملا جديدا، واخذت بوادر التدخل الجراحي بتجارب في الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا اعطت أدلة علمية ونتائج عن استجابة لمرضى الاكتئاب المقاوم لتقنية جراحية تعتمد على حفر ثقوب صغيرة للغاية من اجل تثبيت جهاز دقيق في الحجم وفي اسلوب العمل، حيث يقوم على اصدار نبضات كهربائية تنظم ايقاع المخ ونشاطه وتحفز عمل الخلايا عند الحاجة، ما يوفر تدخل مباشر وبشكل آلي عند تفاقم الاعراض التي قد تصل الى الاقدام على الانتحار في حالات الاكتئاب المقاوم الذي يتعامل معه هذا الجهاز المزروع، وقد تتميز هذه التقنية في جراحات الطب النفسي اذا ما اثبتت نجاحات متتالية مع حالات عديدة ومختلفة بانها توفر الوقت والجهد الذي تأخذه العقاقير التقليدية من اجل الحصول على نتائج، هذا ان أتت العقاقير بنتائج لمثل تلك الحالات، كما ان تلك الزراعة تتميز بالقدرة على التنبؤ بقصور او بنشاط زائد لمراكز الدماغ بالشكل المؤذي للخلايا العصبية ما يدفع الجهاز الى التعامل الالي مع تلك المناطق وتنظيم عملها دون حدوث اعراض مباشرة او اضرار في حياة المريض الاجتماعية والمهنية والاسرية.
وحتى الان ونظرا لحداثة تلك التقنية لا يمكننا تعميم النتائج واسلوب الجراحة على كل المصابين او المرضى، خاصة ان طبيعة الامراض العصبية تتميز بخصوصية شديدة لكل مريض سواء على مستوى الاعراض او على مستوى شكل واسلوب العلاج، الا ان المبشر في ذلك والذي رفع نسبة الامل من تلك الجراحات انها حققت نتائج على عدة افراد في اعمار مختلفة ما بين اعمار الشباب ومنتصف العمر وبين حالات في عمر الشيخوخة، ومعظمهم عانوا لسنوات طويلة واستخدموا كافة الاساليب دون جدوى، ولقوا بعد الجراحة تحسن واضح وكبير خاصة في اعراض الاقدام على الانتحار والتفكير في التخلص من الحياة، وفي اعراض فقد الحيوية وفقد الدوافع لممارسة الحياة اليومية واعراض العزلة المزمنة التي عانوا منها طوال سنوات عمرهم، ولعل ابرز النتائج المبشرة في هذا نجاح جامعة بريستول البريطانية في العبور بحالة “مسنة في العمر” تجاوزت الستين عاما قضتها في آلام الاكتئاب المقاوم للعلاج، واستطاعت تلك الجراحة التي حولت مسارات النبضة العصبية واشاراتها وسلوكها المدمر للخلايا العصبية الى ايقاع منتظم في نشاط الدماغ ما حول حياة المريضة بعد كل هذا العمر من المعاناة الى شباب نابض والى دوافع حسية وسلوكية مرتبطة بالاقبال على الحياة والشعور بالاستماع والسرور والراحة.
لازالت تلك التجربة قيد التحقق والتدقيق، وكما اكد جراحوا الاعصاب حتى الذين قاموا باجراء تلك الجراحة بان هذه الطريقة وان اتت بنتائج ايجابية لازالت تنتظر العديد من الحالات والتجارب حتى يتم تعميمها واقرارها، الا انه ومن جانب اخر اجمع اغلب المتخصصون ايضا ان املا جديدا بهذه التقنية بات يلوح في الافق حتى وان احتاجت الى مزيد من التعديلات على الجراحة لتتناسب مع الجميع، وان قطار مستقبل جراحات الاضطرابات العصبية النفسية قد بدا في التحرك لتنفتح امالا علمية وانسانية جديدة لهؤلاءالمرضى.