البوسطا جا
يكتبها : محمد فيض خالد
لم يكن أهل القرية يعرفون في دُنيَاهم من أُبّهةِ السُّلطِة، وصَولجان الحكومة؛ إلّا هذا الصُّندوق السِّحري ، له جبروتٌ ترَبّع كَصنمٍ معبود في فؤادهم ، قوةٌ تُسكَبُ كُلَّ يومٍ من فتحةٍ مُظلمةٍ داخل جدارِ بيتِ شيخ البلد ، تعبثُ فيهِ يد ” سمير ” البوسطجي مَطلعَ كُلّ نَهارٍ، يشبع الحَبّارة ، ثم يُخرِجُ ورقته بعد إذّ أغرقها حبره الأزرق المُنعِش، تُجلّلها العظمة ، هَيبة الميري وجبروته ، تدورُ عيناهُ في المكانِ قبلَ أن يعمد إلى سلسلةِ مفاتيحه ، فَيغلِقه يزهو السُّرور أعطافه. يتريّث قليلا ، ريثما يعتصر عينه الضّيقة ، ثمّ يطلق صيحةً مكتومة تنَسابُ بعد جَهدٍ صَفيرا مُضحِّكا :” يا أبو الفتوح ، وزّع الجوابات وراس أمك” ،تتعطّل عجلة الحياة عن دورانها ، تتوقف كوانين النّار ، ويَبرد أوارها المُشتعل مُنذ الفجرِ ، تذوبُ أصواتُ الزرازير في جَوفِ الفَضاءِ ، المُمتلئ بالعائدين على الجُسورِ ، مُنذُ عرفت دراجة ” سمير ” الأطلس السَّوداء طريقها لقريتنا ، التي احتضنها المجهول ، والنّاس في أنسٍ منها ، تَحملُ إليهم الخَيطَ الذي يربطهم بدنياهم ، بَاتَ الشّرّ والخَير سواء ؛ فاصِلا من التَّرفيهِ قنعوا بهِ وارتضوه عِوضا عن سَأم المعيشة ، تدورُ أحداث حياتهم مع بدالِ دَراجتهِ ، ما إن يَلمحهُ الصّغار ، حتّى يتهالكوا عليهِ، يُحِيطونهُ في زَفةٍ عَارمةٍ :” البوسطا جا .. البوسطا جا ” ، في بداياتهِ كَرِه هذا الصَّخب يهشّهم بعنفٍ ، لكن بمرورِ الأيام سَلاه، طالما اسبَغَ على مَقدمهِ هَيبةً ، وجَعَلَ من شَخصهِ موضع حَفاوةٍ وتقدير ، هناك حَيثُ تَدورُ رحى حَرب ضَروس بين ” صدام وإيران ” يَتَسمّع العالمُ فظائعها وأهوالها ، يصل قريتنا من مآسيها ما تنَخلع له القلوب ، يُهرِوُل الغَلابة جهة ” البوسطا ” ينتظروا بفارغِ الصَّبرِ مقدَمه، دعواتٌ تُرفَع، وأكف تتلقى ندى الصّباح الطاهر في ابتهالِ المُنقطع ؛ أن يحفظَ الله الغائبينَ ، تندفع ” نفيسة” تَزُكّ بعَرجَتها ، تَضرِبُ صَدرها اليّابس بِكَفٍّ وَجِلة ، مبهورة الأنفاس :”وبركات يا سمير أفندي مفيش جواب له ، بركات وياهم في بغداد “، يشرع صاحبنا مُتأزِّمَا في توزيعِ الخطابات ، يُلقي بها مُناديا بلكنةِ تعالي ، يهتفُ بهِ هاتف الكبرياء ، ساعتئذٍ خشعت الأصوات فلا تسمعُ إلّا همسا ، تنفجر الحَناجر ملبية في خُشوعٍ :” أفندم .. أفندم” ، يتَشمّم العجَائزُ الأظرفَ في خبلٍ ولوعة ، تتقاطر الدُّموعُ سَخية ، يعلو النّشيج ، يقطع السُّكون المتراصّ صوت فتاة ناهد ، مُفعَمَةٌ بماءِ الصِّبا ، تُطَالِعها العُيونُ في خَليطٍ يتلظّى وحَرّ الظّهيرة ، يخدش صوتها الهدوء كما خدشَ جمالها العيون ، يرميها صاحبنا بجذوةِ خُبثٍ من عَينيهِ ، تقولُ غيرَ مُكترثةٍ في ميوعة:” مفيش جواب من أبويا يا عمّ سمير ؟!”، تتفتّحُ من عينيهِ ينابيع الرّجاء صافية ، تترنّح الكلماتُ فوقَ شفتيهِ، أخيرا استطاعَ قمعَ رغبته المحمومة، ينَكبّ كَالمَجنونِ ينبشّ الحقيبةَ ، ناولها الخطاب ووجهه مُزبّدا مُتغيّر القسمات ، تلقفته في تغنّجٍ صارخ ، قبل أن تنفلت كزهرةِ النّرجس تتلاعب بها الرِّياحُ في يومٍ عَاصِف ، ينفضَّ الزِّحام ، فيسرع ” ابوالفتوح” فيحضرَ كوب الشّاي الثقيل ، يتَناوله ” سمير ” في لهفةٍ ، يدسّه بينَ شفتيهِ الغلاظ، يحرِّكَ سيجارة من خلفِ أذنهِ لزوم الدِّماغ ، توارث النّاس في قريتنا مهابة ” البوسطا” ، فكلامه لايُردّ ، تجف تقاطيع ” سمير” وهو يُبرِز مظروفا كبيرا مُنتَفِخا بالأوراقِ ، وخواطره السّعيدة تمرحُ أمامه ، يرد بكلمةٍ واحدة فيّ هدوء :” الحلاوة.. الحلاوة “، يسيل الابتسام في تجاعيدِ وجه العجوز الواقفُ أمامه ، يدسّ يده في جيبهِ، يغيب للحظاتٍ ثم ينفحه المعلوم .
انصرمت الأيام جاحدة ، لم تسلم قريتنا من هجمةِ الحَداثة ، بهتت مكانة” البوسطا” ، وعلا غبار النّسيان صندوقه السِّحري ، بعدما حلَّ بهِ الكَساد ، أصبحَ عبئا لا يُحتَمل ، ذاتَ صبيحةٍ ، نَزَلَ ” سمير ” من فوقِ دراجته ، بدت الوجوه على غيرِ مألوفها ، تنتزع التّحيات في فتورٍ مقلق ، شيّعهم بابتسامةٍ هازئةٍ ، حتّى صاحبه ” أبو الفتوح ” اتخذَ مكانا وسط لاعبي ” السيجة” شيعه بنصف عينٍ ثم تَابعَ لعبه ، تَحاملَ ” سمير ” على مضضٍّ ، جاهد كي يضحك ، فعصاه الضّحك، ألقى التّحيةَ على بيتِ شيخ البلد قائلا في إيجاز :” غدا سوفَ يحضر رجال المصلحة لأخذ الصندوق”، ركبَ دراجته مارِقا يغشاه الصّمت الرّهيب ، لحظتها أدركت أنّ القادم لن يُعَوض الماضي ..