قراءة للمثنوي.. مدخل لفكر وتصوف شيخ المتجلين جلال الدين الرومي(4)
دنيا علي الحسني | أديبة وإعلامية | العراق
العمل الفني بريشة الفنان إياد الموسوي | العراق
(يا أنت ذا الفكر المقيد هل قدماك طليقتان أخيرا أدركت أن الحركة أيضا سر .. في الحركة تصبح الحرية أكيدا بلا اسار لذا ماء البئر والطل مختلفان) جلال الدين الرومي
من منطلق المفهوم المطلق لحرّية الروح في التصوف الإسلامي ، إعادة اكتشاف القيمة الخاصة؛ الأمر الذي يحمله أقصى درجات المسؤولية الأخلاقية، فقد كان “جلال الدين الرومي”، السباق المتحد مع حرية الفكر والتعبير في كتابه المثنوي – المنظومة الصوفية الفلسفية العظيمة، والذي ضمن -حكاية شائقة من الحكايات الناطقة بالحكمة، والمتلألئة بالبصيرة المُلهمة، عن الحرية كنمط وجود يعيد تشكيل كينونة الكائن، ويتسامى بها إلى الحد الذي يجعل الحياة ترتسم له بصورةٍ باهرة وذلك في قصة الببغاء واذلاله وكيف كان الببغاء يتلهف إلى الحرية في سجنه المظلم، واستعباده في القفص للحرية التى هي نمط وجود يعيد تشكيل كينونة الكائن ويتسامى بها إلى الحد الذي يجعل الحياة ترتسم له بصورة باهرة.وأن حاول بعضهم تأويل سجن الببغاء بسجن الجسد للروح؛ فاني أراه سجنا للجسد قبل الروح، لأن كل سجن استعباد، وسجن الجسد ينخر الروح ويجرحها، فتظل تنزف حتى تتبدد طاقتُها وتنضب. وهكذا رسم جلال الدين صورة مفجعة، للحزن والأسى الذي كان يعيشه الببغاء على إثر شعوره بالإستعباد، بمصادرة حريته ويصف حزنه الشديد بشجن ملتاع، عندما يتحدث على لسان الببغاء السجين بتوقه إلى الطيران بحرية، إن في الكلمة من رمزية الطموح وتحقيق الآمال ورؤية العالم من علو وبرفعة هي كلها تتمثل في مظاهر الحرية حيث استحضر ما قاله، مخاطبا رفاقه من الببغاوات الحرة في الغابات من محبسه: أيليق أن أسلم الروح شوقا إليكم، وأموت هنا مفترقا عنكم؟
وهل يجوز أن أكون أسير القيد الثقيل، وأنتم حينا فوق المُروج، وحينا على الأشجار؟! * وهل يكون هكذا وفاء الأصدقاء؟ أنا في هذا الحبس، وأنتم في حديقة الورد؟ ألا فلتذكروا -أيها الكرام- ذلك الطائر الذليل، بصبوح بين المروج!، فما أسعد الخليل إذا ذكره خُلّانه ،، فيا من تنادمون مِلاحكم الفاتنات الحسان!”. هذه حكاية ، تتضمن تفاصيل وحكما متنوعة، أوردها “جلال الدين” في المثنوي، بأسلوبه الباهر في إنشاء الحكايات. وراء تفاصيلها، ووقوفا على محطات الحوار الشجية فيها بين الببغاء وصاحبه تحليل سيكولوجي للتضاد في الطبيعة البشرية، ومفارقات سلوك الإنسان، الذي هو في الوقت الذي يحب فيه الببغاء، يسجنه في القفص، ولا يكترث لأنينه وزفراته، التي لا تهدأ من عذاب الإستعباد ومراراته. أيضا حب الإنسان ينطوي على مفارقة. فهو في الوقت الذي يحب فيه، لا يكتفي بالحب، بل قد يعمل على الإستحواذ والتملك. والإستحواذ والتملك، يؤولان، إلى الإستعباد. والإنسان لا يتنبه على ما ينطوي عليه سلوكه هذا من تضاد لأن الطبيعة البشرية مُلتقى الأضداد. وذلك ما يقود الإنسان إلى مفارقات غريبة في مواقفه وسلوكه، إذ قلّما نجد إنسانا يتخلص بشكل تام من الإزدواجية والمواقف المتضادة في أقواله وأفعاله.إن الإستعباد لا يطيقه حتى الحيوان عندما يستنزفه الشعور بأنه صار ضحية إذلال وامتهان وإهانة.
فكيف يكون حالُ الإنسان العاقل الذي تشكّل العواطف والمشاعر رصيدا أساسيا في كيانه، إن كان ضحية إستعباد يهتك كرامته ويمزّق كيانه الداخلي .
الأبعاد ألروحيه والمادية للحرية
البعد الروحي للحرية (المقدرة على التطور أو الترقي الروحي(أي المقدرة على إشباع الحاجات الروحية، أو السعي لتحقيق الغايات والمثل العليا المطلقة)(لا يلغى البعد المادي لها (المقدرة على التطور المادي (أي إشباع الحاجات المادية أو تحقيق الغايات والمثل العليا المحدودة بالزمان والمكان أو حل المشاكل المادية)، بل يحدده كما يحدد الكل والجزء فيكمله ويغنيه. فهو يتم ، عندما تأخذ حركه الإنسان شكل فعل غائي (ذو ثلاث خطوات:المشكلة، الحل، العمل) محدود (تكوينيا وتكليفيا) بالفعل المطلق (الربوبية) والغاية المطلقة (الألوهية). وقد اختار التصوف تأكيد البعد الروحي للحرية لكن تباين الموقف من البعد المادي لها ، ففي حين أكدت بعض المذاهب الصوفية على البعد الأول لم تلغى البعد الثاني وجعلت العلاقة بينهما علاقة تحديد وتكامل، تطرفت مذاهب أخرى في تأكيد البعد الأول لدرجه إلغاء البعد الثاني ، فجعلت العلاقة بينهما علاقة تناقض وإلغاء .
المقامات والأحوال
هي درجات (مراحل) هذا التطور أو الترقي الروحي استنادا إلى تقرير القرآن الكريم؛ إن الوجود الإنساني ينبغي أن يكون في صعود دائم عبر درجات﴿ يرفع الله الدين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾.﴿ ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات ﴾. وهذه الدرجات بعضها ذو طابع ذاتي هي الأحوال .وبعضها ذو طابع موضوعي هي المقامات . فالأحوال: تمثل الدرجات الذاتية لهذا الترقي الروحي ، متمثلة في الأنماط الانفعالية والمعرفية، التي تأتي كمحصلة بالتزام الإنسان لمجموعه من القواعد التي تحدد للإنسان ما ينبغى أن يكون عليه وجدانه وتفكيره. بينما المقامات تمثل درجاته الموضوعية متمثلة في الانماط السلوكية التى تأتي كمحصلة لالتزام الإنسان بمجموعة القواعد التي تحدد له ماينبغي أن يكون عليه سلوكة، وإذاك تغدو محلقة بحرية بعد أن تخلصت من ذلك القيد. يقول: “جلال الدين الرومي” مبتهجا بتلك الحرية لقد صارت الروح مجردة من ضجة الجسد وضوضائه ،، إنها تحلق بجناح القلب
لا بقدم الجسد). وكما فاضل بين المخلوقات في العالم الأرضي بمعيار الروح نراه يستند إليه أيضا في المفاضلة بين الملائكة في العالم السماوي ، لجبريل فضل على اسرافيل، لأن الأول هو حياة الروح بينما الثاني هو حياة الجسد، ويكمن السر في هذا الإجلال للروح عنده في كونها تمثل السبيل الوحيد لدى الكائن البشري للإتصال بجوهره الإلهي وذلك بعد تنقيتها من شوائب الوجود المادي وتصفيتها من مؤثرات الحس والظن والوهم، وقد رسم “جلال الدين” منهج الصفاء الروحي بكل وضوح وهو منهج يمر عبر الرياضات والمجاهدات ليصل إلى نهايته مع تجربة العشق تلك التي تفضي بالعاشق إلى الفناء في المعشوق . إنه العشق الإلهي المبني على حب التضحية هو أسمى أنواع الحب والذي يكون فيه العاشق كصورة الشمع الذائب في لهيب النار وهو يصفه بقوله:( كان يحس بنار لم يكن يعلم كنهها،، لكنه كان يبكي مع لهيبها كانه الشمع)، أما موضوع العشق فهو الذات الإلهية أو (الحق) بدون تورية أو كناية أو التباس، ولذلك لا يكفي في هذا العشق أن يمضي العاشق إلى النار كالخليل ابراهيم أو أن يجعل دمه مسفوكا مثل يحيي أو أن يصير أعمى من البكاء مثل يعقوب أو أن يمضي إلى فم الحوت مثل يونس أو أن يودع الجب والسجن كيوسف أو أن يعاني من عذاب الفقر كعيسى، كل ذلك لا يعد كافيا لأنه حتى إذا ما كابد العاشق في عشقه كل ذلك، فإن معشوقه سيجيب قائلا : ( إنك لم تفعل أصل العشق والولاء وكل مافعلته هو مجرد فروع)، ( إن أصله هو أن تموت وتتحول إلى عدم) الاستقامة في طريق الحب الإلهي والفناء في الله، ومن هنا لم تتحدث طائفة من الناس عن الحب الإلهي، وعن الفناء في الله كما تحدث الصوفية والفناء الصوفي فوق سموه الايماني مذهب في التربية والأخلاق لا يماثله مذهب آخر من مذاهب التربية والأخلاق، وعلى هدى منهج الكتاب المثنوي في ضوء علم النفس الحديث يعرف بأن ننظر إلى الفناء الصوفي على انه منهج للكمال والتسامي لا يطاوله غيره، ولا يغني عنه سواه. إنه إفناء المشاعر والرغبات الأرضية في شيء أكبر واعظم من المثل الأعلى، المصطلح عليه خلقيا وتربويا إنه إفناء هوى النفوس وشهواتها وعواطفها وكل ماتحب فيما يحبه الله ويريده ويأمر به، ليعيش الصوفي متخلقا بخلق الله إنه اذا استبدل خلق بشري بخلق رباني وذلك ارتفاع بالبشرية وبالانسانية لا تعرفه الدنيا لغير الصوفية الاسلامية، فالفناء الصوفي ليس فناء جسد في جسد ولا فناء روح في روح، إنه فناء إرادة في إرادة وفناء أخلاق في أخلاق وصفات في صفات أو كما يقول الصوفية: فانيا عن أوصافه ملقيا بأوصاف الحق. إنه لتصعيد للكمال تصعيد تخفق أجنحته في أفق قدسي علوي ثم تخفق صاعدة صاعدة حتى تنال شرف التخلق بأخلاق الصفات الإلهية وبهذا الفناء يحس الصوفي إحساس ذوق ووجدان وقلب وروح بإذن الله سبحانه معه وفي ضميره وحركاته وكلماته، لقد فني الصوفية في حب مولاهم وتخلقوا بأخلاقه، وتادبوا بآدابه وتربوا في محاربيه وعاشوا في ذكره ومناجاته فعلمهم وطهرهم وزكاهم واصطفاهم واجتباهم وأحبهم ورضي عنهم ففتح لقلوبهم ملكوت السموات والأرض، يريهم عجائب كونه وبدائع قدرته وأسرار خليقته. وأفاض عليهم هداياه وعطاياه علوما وأذواق أذواقا. أو كما يقول الصوفية أخذتم علمكم ميتا عن ميت وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت) ومن هذا الفناء جاءهم الخلود وبهذا التخلق أصبحوا أئمة يهدون إلى الله بأمره ويقفون حراسا على آياته ومشاهده إلى أرض الحقيقة مبشرين بكلماته متحدثين عن حضرته داعين إلى محبته ومناجاته مترنمين في آفاقه وجدا وشوقا بتسبيحه وذكره . تلك لمحة عن عقيدة التصوف. وعن جلال الدين الرومي ونفحات طريق العشق الالهي للصوفية، الذين رأت قلوبهم الله فلم تمت قلوبهم بعد المشاهدة بل خلدت تنبض بالحب وتقتات بالذكر وتنعم بالهدى والرضا وترسل الشعاع الذي ينير طريق السالكين إلى ربهم .…