في وداع أمي انشراح ابنة الـ 97
أمير مخول | فلسطين – (من سجن الجلبوع )
(في الرابعة وعشر دقائق من فجرااليوم التالي، أيقظني السجان وطلب أن أعدّ نفسي وأرتدي ملابس السجن كي ينقلوني خلال عشر دقائق وبحراسة مشددة من السجن الى مستشفى نهريا حيث ترقد أمي انشراح ووضعها حرج…)
في وداع أمي
خياران من دون خيارات
خياران هما، إما الوداع الأخير وإما الوداع الأخير.. وكيف أختار والسؤال هو أمي إنشراح ابنة السابعة والتسعين.
وقّعت اليوم على بيانين أحضرَتهما ضابطة شؤون الأسرى في سجن الجلبوع، الأول بتخويل أخي عصام وصيّا على أمي في جولتها التي لا تبشّر بالأمل وعلى الإجراءات بشأنها، وعند المساء طلبت مني الضابطة إياها أن أوقع على رسالة فيها أحد خيارين- إما وداع أمي الراقدة في المشفى وحالتها حرجة، وإما ان أشارك في وداع أمي في حال أسلمت الروح ومن خلال المشاركة في دربها الأخير. القرار النهائي يعود الى مصلحة السجون، وهذا يعتبر في لغة الاعتقال قرار ايجابي. كذا هي لغة الإجراءات لتقف أمامها المشاعر أسيرةً مقيَّدة.
هل أختار الوداع الأخير وفيه أشعر بدفء وجنتيها ويديها ورأسها وأعانقها حتى ولو لم تعانقني فهي خارج هذا الآن. أم اختار الوداع الأخير والبرودة تلفُّ من كلّ مكان، وحيث يكون أكثر البرد من الجسد.. وليس أقسى من برد الجسد.. هل أختار الوداع الاخير والناس من حولي يَحول السجانون المرافقون بين وبينهم، أم اختار الوداع الاخير والصمت والفراغ من حولي، فأنا بحاجة الى ان اكون مع نفسي والصمت والفراغ من حولي حمايةً للموقف وللمقام. كان عليّ أن أحسم موقفي بلحظة، ومهما كان القرار فلا بدّ أن أشعر بالذنب والندم والألم والحزن.
وقّعت على الخيار الأول فهو أوجب لأمي. لربما شعرت بي وأومأت لي بإشارة فيها من الحيوية ولو أقلّ القليل.. لربّما شعرت أمي بأنني الى جانبها أمسك بيدها وأقبّلها، فعلاقتي بأمي هي بأمي، ولا يتشبّه لها.
بعد التوقيع شعرت بدموعي تنهمر وأنا وحدي. أحببت دموعي حينها، بكاء بيني وبين نفسي لا أحد يشعر به ولا أحد يشاركني، ولا أريد من أحد أن يشعر بمشاعري كي لا يعطّل على مشاعري. ففي السجن لا شيء مثل الركون الى الوحدة لتساعد الأسير بأن يحزن على راحته ويشعر كما يشعر.. في الوحدة في السجن حمايةٌ لنقاء الحزن.
أردتُ أن أكون مع أمي، أن أشعر بأمي ولا شيء غير أمي، فلم أرَ أمي منذ سبع سنوات ونصف السنة، باستثناء دقائق حزينة ضمن ساعة حزينة شاركتُ فيها في جنازة أبي الحبيب حنا وأنا مكبّل الوقت واليدين والرجلين ومحاصَر.
هل كان خياري اليوم أن أجرّب أسلوبا آخر في وداع اللقاء الذي لم يكن، وهو باقٍ في ذهني وقلبي ووجداني ، يختلف عن أسلوب وداع اللقاء مع أبي قبل عامين وأشهر؟ لا أظنّ ذلك، فلا مفاضلة في النهايات..
حسمتُ خياري لأنني من أنصار الحياة وأحب الحياة، وبالذات لأنني أحب أمي، ولأنّ الفكرة تحسن الخيار أكثر مما تجيده المشاعر في حالة الأسر، فالمشاعر لا تقبل الخيارات بل تريدها مجتمعةً، لكن لا محالة من حسم الخيار!!
عدتُ إلى أمي الى طفولتي، إلى الحكايات الأولى، إلى الخطوات الأولى التي أُدركها.. إلى الدروس الاولى من معلمتي الأولى.. من أمي. لا منهاج في دروسها سوى نهج الحياة الحرة الكريمة في التعامل مع الذات ومع الناس، عدتُ إلى الألعاب الاولى التي تبقيني ولداً، إذ تُبقي الطفلَ الذي بي يهنأ في ساحات حنانهاِ، وجاءتني بسرعة كلمات أغنية فيروز:
“أمي يا ملاكي يا حبي الباقي الى الأبد
ولا تزل يداك أرجوحتي ولا أزل ولد”
هذه الأغنية التي كثيرا ما أرددها مع نفسي، وتحضرني معها “ست الحبايب” التي تحزنني كلماتها كلما سمعتها، بينماّ “أمي يا ملاكي” تملؤني مرحاً حتى ولو كان موشّحاً بالحزن الآتي من أرض الحنين وينبوعها الذي يتدفق ماضياً جميلاً كان ولن يعود إلا في ركب حنيننا.
منذ أسبوعين وأنا أعيش القلق الذي يقيّد خطاي أينما كنت. ولا مكان أذهب اليه في السجن إلا إلى السجن وفي باحة الافتراض ومنها إلى السجن، ومن المفارقات أنني كلما ذهبت أكثر إلى داخل السجن تحرّر ذهني أكثر وكذلك روحي، وفي الوجدان مساحة حرة لا يحدّها حدٌّ.
عند الفقدان أو في أجوائة يتضاعف السجن ضيقاً، هذا هو السجن حين أتقدم بطلب لزيارة أمي في المشفى، واذا رفضوا الطلب فالشعور مأساوي، وإذا وافقت إدارة السجن على الطلب فهذا دليل على أن وضع أمي مأساويا. تقول أنظمة السجون أنّه يُنظر في طلبات الزيارة في مثل هذه الحالة باشتراط أن تكون المريضة بوضع حرج ولا عودة عنه، ولهذا فإنّ رفض الطلب يكون مطمئناً إذا ما تأسّس القرار على التقرير الطبي، في حين قد تكون الموافقة مشؤومة إذا ما تأسست على التقرير الطبي.. هذا هو السجن .. حين يغدو السجن سجناً أكثر..سجن!!
(توفيت أمي في 28/12/2017)