الشخصيات والحدث في رواية ” وما زال الحلم ” للأديب جمال بنورة
رائد محمد الحواري
العمل الجيد له سمات، منها البساطة، سهولة لتناول، اللغة المقنعة التي تناسب طبيعة الشخصيات/الحدث، الابتعاد عن المباشرة، تقدم فكرة تخدم المتلقي، وتساعده على فهم واقعه والإنتقال الصحيح نحو المستنقبل.
في رواية “الحلم” يتحدث السارد من بداية مرحلة أوسلو مرورا بالإنتفاضة الثانية/الأقصى، بمعنى أن هناك أحداثا تدور في أكثر من سبع سنوات، وإذا أخذنا حديث الشخصيات عن مرحلة الاعتقال التي تعرضوا لها على يد قوات الاحتلال وقبل قدوم السلطة، نكون أمام زمن ممتد روائيا.
الشخصيات
“رأفت سليمان” الشخصية المركزية في الرواية، وهي التي تروي لأحداث وتعرفنا على بقية الشخصيات، “عبير” خطيبته وابنة عمّه التي تفسخ خطوبتها معه، وتتزوج من “إياد خليل” الذي يحمل معتقدا دينيا غير دينها، وهي بهذا الزواج تكون قد تمردت على واقعها وعلى مجتمعها وعلى أسرتها، وفعلت ما تراه مناسبا، أمّا “إياد خليل” فهو شخصية وصولية، استغل قدوم السلطة ليحقق أهدافه الشخصية، ولم يتوانَ عن استخدام (سلطته) العامة لمصالح شخصية، “نعيمة” صحفية ملتزمة بأخلاق المهنة، تكبر “رأفت” سنّا، توجهه لإكمال دراسته في الخارج، رغم أنه طلب يدها، إلا أنها ضحّت بزوجاها منه في سبيل إكمال تعليمه، وبعد أن ينهي دراسته تبقى العلاقة بينهما على حالتها، يرغب بالزواج منها لكنها تؤجل، إلى أن يدخل “شوكت” المموّل للمجلة التي تديرها، يحاول النيل منها، لكنها تصدّه بعنف، تخبر “رأفت” بما حدث معها، لكنه يأخذ ردة فعل لا تتناسب وطبيعة (المناضل/المثقف)، ويفكر بطريقة الرجل الشرقي المتخلف، وهنا تنقلب العلاقة بينهما من رغبة “رأفت” بالزواج إلى رغبة “نعيمة”، لكنه “رأفت” يصدها وتفتر العلاقة بينهما إلى أن تأتيه “نعيمة” وتخبره بأنها حصلت على فيزا لأمريكا وستسافر، وهنا يقف “رأفت” مكتوف الأيدي لا يحرك ساكنا، ويبقى وحيدا رغم أنه تجاوز الثلاثين عاما من عمره.
“رانية” خطيبة الشهيد “سامر عبد الله” والتي رفض “رأفت” الزواج منها لأنها خطيبة الشهيد، الذي يكن له المحبة والإخلاص، تتزوّج من “عصام لطفي” بمعنى أنها تنسى الماضي، وتعمل وتفكر حسب متطلبات الحاضر/الواقع، بينما “رأفت” غارق في الماضي، لا يستطيع أن يتركه أو ينساه، ولا يستطيع التكيف مع الحاضر/الواقع، فانطبقت عليه الآية القرآنية “مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ” فبقى في المنتصف لا يتقدم إلى الأمام، ولا يستطيع العودة إلى الماضي.
يضاف إلى هذه الشخصيات، عمّه والد عبير وأمّها، الصحفي “وليد فؤاد” أمه، والده الذي لا يأتي على ذكره إلا بما تقضيه الحاجة الروائية كما هو الحال في هذه المشهد:
” ذهبت الى أبي غاضبا:
– لماذا يرفض أخوك التّسليم عليّ؟
رمقني بنظرة استغراب..ثم عاد الى طبيعته وهو يقول بلهجة تبرير:
– إنه غاضب وحزين، فلا تزيد الطين بلّة..أتركه في حاله!”، في المشهد الذي تناول صد “رأفت” لعمّه عندما حمل سكينا وأراد قتل “عبير”، التي جاءت لمشاهدة والدتها المتوفاة، عندها يخاطب أخاه” ” يا سليمان! خذ ابنك من طريقي..قبل أن يحدث له مكروه” وبهذا يكون السارد قد تناول شخصيات فاعلة وضمن الحاجة، فلم يكن هنا (حشو)، وإنما ما تتطلبه الأحداث الروائية.
رأفت المنتميالمبدئي
ساحاول التوقف عند بعض الشخصيات وما تحملهه من صفات وسمات، ونبدأ من مركز الأحداث وراويها، رأفت” شخصية ملتزمة، مبدئي، حتى المثالية، يفكر بطريقة أخلاقية، يحافظ على الماضي ويقدسه، يخبرنا عن “رانية” وكيف ينظر إليها: “كنت أتجنب الاحتكاك برانية، خشية أن تتطور العلاقة بيننا إلى شيء لا أريده. فهي بالنسبة لي تخص سامر وحده، رغم محاولتها التقرب مني، وتجديد علاقتها بي فأنا لا أستطيع ان أحتل مكان صديقي حتى لو كان ميّتا. وهي تبدو، وكأنها ما زالت تبحث عن الشخص الذي تستطيع أن تمنحه حبّها..كأنما تبحث عن شخص سامر في وجوه الآخرين..لعلها تجده في أحدهم..” من خلال هذا المقطع يتأكد لنا أننا أمام شخصية إخلاقيةملتزمة، تحافظ على العهد، وتتعامل مع الماضي بقدسية، لهذا فإنه يرى في إقامة علاقة مع خطيبة صديقه “الشهيد سامر” خطيئة، ومسّ بالأخلاق.
طريقة تفكير “رأفت” ماضاويةورائية، لا يعرف الحاضر إلا من خلال الماضي، لهذا عندما تفاتحه أمّه ب”رانية” يصدها من خلال هذا الحوار:
“… – ينقصني أن أجد الفتاة المناسبة.
وذكرت لي رانية في إحدى المرات.
قلت بشيء من العصبية:
-هذه بالذات..لا تذكريها لي!
– لماذا؟
– لا أستطيع ان أنسى أنها كانت خطيبة سامر..وأنا لا أتزوج خطيبة صديقي!..
– ولكنه مات!
– الشهداء لا يموتون يمّه!
– ولكنهم لايتزوجون أيضا!” رغم منطق الأمّ الواقعي، ورغبة “رانية” به، إلا أنه يبقى متجمدا في مكانه، لا يرى الحاضر ولا ما بعد الحاضر، فيبقى أسير ماضيه، وأسيرا لإخلاصه لسامر الشهيد، متجاهلا منطق أمّه العقلاني والواقعي، مبديا حالة من (التزمت) أكثر منها إخلاصا لسامر وخطيبته.
هذا على صعيد الشهداء، أمّا على صعيد الحصول على مكاسب نظير نضاله وتاريخه، فيرد أيضا بالطريقة عينها، رفض المركز/الوظيفة التي جاءت كثمر لنضاله، يتحاور مع “إياد خليل” عن هذا المركز/الوظيفة بهذا الشكل:
“…منصب مقابل ذلك؟
قال متسائلا: وأنت متى ستضع عقلك في رأسك؟
– اذا لم يكن عقلي في رأسي، أين تظنه يكون؟
– في المثاليات التي تؤمن بها!
– أليس أفضل من الماديات التي يتاجر بها بعض الناس؟
– يعني لا تزال على رأيك؟
قلت بشيء من السخرية:
– حتى تقنعني بعكس ذلك!
أخذ كلامي على محمل الجد، وقال:
– أنت مهندس..وأنت تعلم حاجتنا الى مهندسين..نحن نعيش الآن مرحلة بناء..
قلت بلهجة جادة أيضا:
– لا أريد أن أقيّد نفسي بالوظيفة،خصوصا إذا كانت مشروطة!” إذن نحن أمام شخصية منسجمة مع مبادئها وطريقة تفكيرها، تمارس قناعتها دون أن تتلوث بالحاضر أو المراكز أو الإمتيازات والنفوذ، وهذا ما يجعل “رأفت” متألقا سلوكيا ووظيفيا، وغير ناجح في بناء أسرة.
رفعت السلبي
بمعنى أننا نحييه على موقفه بعدم قبول الوظيفة، ندينه لعدم قبوله الاقتران “برانية ونعيمة”، بعد محاولة الاعتداء “شوكت”على “نعيمة” تأتيه ليخفف عنها ألمها، لكنه يردها خائبة بهذا المنطق:
” فقالت:”أرجوك..عانقني! أريد أن أحس بملمس يديك على جسدي..أريد أن أنسى ما حصل لي.”
– ولكنني لا أستطيع أن أنسى. قلت:”لا أستطيع أن أضع يدي في المكان الذي لامسك فيه..إنني أتخيل بصمات أصابعه على جسدك..أتخيل ذراعه تحيط بك..جسده يلتصك بجسدك..لا أحتمل تخيّل ذلك..رأسي سينفجر..ابتعدي عني!”
لعلها شعرت أننا سنفترق منذ تلك اللحظة..فقالت بيأس وهي تبتعد عني:
“لو كنت أعرف أن ردك سيكون هكذا لما أخبرتك.”
عند ذلك تركتها في عذابها وخرجت.”
اللافت في هذا المشهد أن “رأفت” لا يفكرإلا بنفسه، لهذا (أهمل وتجاهل) حالة “نعيمة” البائسة واهتم بذاته، بالطريقة التي يفكر بها، فهو لا يريد أن يزعج نفسه حتى لو كان هذا الإزعاج يريح الآخرين، من يحبهم ويحبونه. ونجد سلبيته في الوقوف ساكنا أمام “نعيمه” وهروبه منها، فبدا وكأنه لا يقدر على مواجهة عاطفته وطريقة تفكيره، ولا على مساندة من يحبهم ويحبونه.
الوقوف في منتصف الطريق يعد حالة من الضياع وعدم اليقين، “رأفت” يقف في المنتصف، لا يقدر عل التقدم نحو المستقبل، ولا يستطيع أن يعود إلى الماضي، هذا حاله من نعيمة:
“…. لماذا لا أعود الآن الى نعيمة، وأضعهم أمام الأمر الواقع؟..ربما أمام هذا الإلحاح من أمّي سيقبلون بأن أتزوجها..ولو على مضض!. وهكذا أفوز بها دون أن أضطر لإغضابهم!..ولكن هل لدي التصميم لاتخاذ مثل هذا القرار..وهل ستقبل هي؟..ولماذا لا أستطيع ترميم علاقتي بها؟لماذا أتركها سائبة للزمن والظروف؟ لماذا أتمترس دائما عند موقف ردّ الفعل..ولا أبادر الى الفعل الواعي الصادر عن قناعة وتصميم؟..ولكن هل لدي قناعة بأي شيء؟ هل أنا أريدها فعلا؟ وإذا كنت أريدها فلماذا لا أسعى اليها؟..ماذا أنتظر؟ أحسّ أنني لا أستطيع أن أعيش من دونها! ولكنني في نفس الوقت..لا أستطيع أن أعود اليها..”
إذن “رأفت” يعاني من ضعف واضطراب في علاقاته مع النساء، فأفكاره والطريقة التي يفكر بها تجعله كسيحا جامدا دون حركة فاعلة.
ولم يقتصر الأمر عىلى “نعيمة” فحسب بل طال أيضا “رانية، وعبير”، وهو يصرح بحقيقة فشله في إقامة علاقة حقيقية بينه وبين النساء من خلال هذا القول: “… إنها لا تعرف أن الفتاة المناسبة ضاعت مني الى الأبد..هل كانت عبير هي الفتاة المناسبة أم رانية..أم نعيمة..؟ أنا نفسي لا أعرف!..وهل بقي هناك من يناسبني؟..وربما لم أكن أنا مناسبا لأحد..” من هنا يمكننا القول أن حالة التردد تجاه النساء وإقامة علاقة طبيعية معهن كان إحدى السلبيات التي لازمت تصرف وسلوك”رأفت”، فكان (عاجزا) عن التقدم خطوة واحدة إلى الأمام.
نعيمة
“نعيمة” تتماثل مع “رأفت” في مبادئها وأخلاقها، فهي تنكر ذاتها في سبيل “رأفت” وتعليمه، وفضلت الحرمان من الزواج لحساب تعليم “رأفت”: “…أنا أريدك أن تكمل دراستك الجامعية أولا. لن أقف عقبة في طريق مستقبلك..” ولم تقبل الإقتران به رغم أنها تكبره سنا، بمعنى أن زواجها من “رأفت” لصالحها جنسيا واجتماعيا، لكنها أرادت له أن يكون مع آخرى تناسبه، لهذه هي امرأة مضحية، وتعطي ولا تأخذ:
“كلما حاولت ان أثير الموضوع معها،كانت تتهرب من إعطاء جواب قاطع. قالت أخيرا:
– لنعط أنفسنا مهلة أطول للتفكير!
– كل هذا الوقت الذي مضى..ألم يكن كافيا لتتخذي قرارك؟
– لا أريد ان أخطىء باتّخاذ قرار متسرّع.
ثم وهي تبتسم في مداعبة:
– ها أنا بين يديك..ففيم العجلة؟
– أريد أن تشاركيني حياتي..أن تكوني لي دائما..أن أستمتع بالحياة معك..بوجودك الى جانبي..
مقاطعة:- لدينا الوقت الكافي لذلك.” من خلال هذا الحوار نتأكد أننا أمام حالة من الوفاء والنبل تتمتع بها “نعيمة”، فهي لا تريد لمن يحبها وتحبه أن يكون نادما في المستقبل، فهي تحب “رأفت” وتريده، لكنها أيضا مترددة وتخاف من المجتمع، تخاف أن يقال عنها أنها (استغلته) وتزوّجته، هذا ما نجده في الحوار الذي دار بينهما:
” بعد غفوة قصيرة صحوت لأجدها ترنو إليّ وهي تملس شعري..
– ألم تنامي؟
– لا!
– ماذا كنت تفعلين؟
– أتأملك.ما أحلاك وأنت نائم!
– أنت أحلى!
مرّغت رأسي في صدرها. نظرت في عينيها. سألتها:
– نعيمة..هل فكرتِ بي كثيرا..بقدر ما فكرت بك؟
– ألم أجبك عن هذا السؤال؟
– إذن..هيا بنا نتزوج!
– ألسنا كذلك؟
– أريد علاقة شرعية أمام الناس..أشتهي ان أسير الى جانبك، وأقول أمام جميع الناس..هذه امرأتي.
– لا أعتقد ان أحدا سيصدق.
– لماذا؟
– أنا أكبر منك بكثير..ألا أبدو كذلك؟”
من هنا يمكننا الاستنتاج أن كلا من نعيمة ورأفت يرغبان ببعضهما، وهما أصحاء (جنسيا)، لكن الممانعة، التريث، التأجيل، وعدم القدرة على أخذ موقف حاسم في الوقت الملائم، حال دون إتمام هذه العلاقة بشكل صحيح.
ورغم أنها تتمتع بأفق واسع تجاه العلاقات الاجتماعية (علاقة عبير وإياد” وتفكر بعقلية منفتحة:
” لماذا نعطل كل طاقات المجتمع وننشغل في قضية تهم شابا وفتاة اختارا أن يعيشا معا؟ كم من الاجتماعات والمشاورات عقدت لبحث هذه القضية!
– اذا كنا نطالب بحق شعبنا في تقرير مصيره، أليس بالأحرى أن تكون المرأة صاحبة الحق في تقرير مصيرها أيضا؟..أليست حرية المرأة من حرية المجتمع؟”
إلا أنها لم تكن قادرة على اتخاذ خطوة إلى الأمام تجاه علاقتها مع “رأفت” فبدت مثله عاجزة كسيحة، تبدي الحكمة في قضايا عامة، واليأس تجاه الذات.
“نعيمة كانت قوية، تواجهة التحديات والمغريات المالية، بحيث وقفت سدّا منيعا أمام الإغراءات التي قدمت لها؛ لتكون مجلتها مستقلة، غير تابعة لأحد، حتى لو كان هذا الأحد وطنيا:
“…عُرض عليها تمويل من بعض التنظيمات مقابل أن تكون بوقا لهم. وبعضهم طلب شراء الترخيص، وأن يقوموا هم بإصدار المجلة والتكفل بمصاريفها، وتحتفظ هي باسمها على المجلة كصاحبة امتياز.
قالت:” ومن يتحمل مسؤولية ما يُنشر؟..وما دوري أنا في المجلة؟” ولم تتوصل معهم الى اتّفاق.” ولم يتوقف الأمر عن المُغريات المالية، بل أيضا تواجه التحديات النفسية ـ كونها امرأة كبيرة لم تأخذ حاجتها من الرجال، فتقف بوجه “شوكت” الذي حاول استمالتها كامرأة..كأنثى تحتاج إلى تفريغ ما بها من شهوة:
” حاول الاقتراب منها، وملامسة جسدها، فابتعدت عنه، فدنا منها ثانية، وحاول تقبيلها، فصدته بلطف، وعندما تمادى،عنفته قائلة:
– ليس من أجل هذا التقينا.
وفاجأها قائلا:
– إنني أعرض عليك الزواج..فهل تقبلين؟
– تطلب مني ذلك، وكل منا لا يكاد يعرف الآخر؟
وإذا قلت لك، أنني لا أريد الزواج!
لم يكف عن إلحاحه. قال:
– نكتفي بالمتعة.
قالت في برود يشوبه إحساس بالغضب الشديد:
– ماذا ترى فيّ..؟ سلعة..أم بائعة هوى؟”
هذه القوة والإرادة تنم عن شخصيةامرأة قوية قادرة على الفعل والمواجهة والتحدي وإثبات الذات، لهذا بعد هذه الحادثة تتقدم من رأفت؛ ليكون زوجا لها، لكنه يصد عنها متذرعا بطريقة بكونه رجلا شرقيا، يفكر ويتصرف ضمن هذا المنطلق الواقع، فتقرر الرحيل من البلاد وما فيها، وبهذا الرحيل تكون نعيمة قد حققت شيئا من ذاتها، ممّا تريده هي، فقد تحررت من فكرة (الواجب/الأخلاق/الوطن/العطاء) لتكون ذاتها، بينما استمر “رأفت” في مكانه جامدا بلا حراك.
الأحداث
لم يقتصر الحدث الروائي على ما هو اجتماعي، بل طال أيضا السياسي والوطني، بحيث كانت الأحداث السياسية متوزاية مع الاجتماعية، يحدثنا السارد عن أوسلو بهذا بأكثر من زاوية، منها ما هو إيجابي، كما هو الحال في هذا المشهد:
“- حسبتك تعارضين أوسلو!
– أعارضها..نعم، ولكنني سعيدة بعودة أبناء شعبنا إلى الوطن.
– ولكن لولا أوسلو، ما عادوا.
– رغم كل سيئات اوسلو.. نحن نعتبر عودتهم مكسبا وطنيا، علينا استثماره لتعزيز نضالنا ضد الاحتلال،وضد أوسلو أيضا..” فالمقياس الإيجابي نابع من المنطلق الوطني، وليس من منطلق شخصي، فعودة الفلسطيني لوطنه يعد مكسبا لفلسطين ولشعب فلسطين.
لكن هناك سلبيات وملاحظات متعلقة بأوسلو:
“- لم يتحسن وضعنا كثيرا عن الأول، فالسلطة تطالبنا الآن بالضرائب التي طلبوا منا سابقا، عدم دفعها لإسرائيل.
– نحن نريد أن نعمل، ونعيش بكرامة..ما يوفر لنا ذلك نقبل به.
– لا أعتقد أن أوسلو سيحقق السلام. نحن نريد سلاما قائما على العدل، واتفاق أوسلو غير عادل بالنسبة لنا.
– أقبل بالاتفاق إذا كان سيحقق عودة اللاجئين إلى وطنهم.
– إذا كان الاتّفاق سيؤدي الى قيام دولة فلسطينية فنحن نقبل به.
– الاتّفاق تنازل خطير لن يؤدي إلاّ الى حكم ذاتي هزيل، وهذا سيقطع علينا الطريق لتحرير باقي التراب الفلسطيني.
– ليس بالإمكان أحسن مما كان. أقبل بالاتّفاق على علاّته.
– نقبل به كحلّ مرحلي الى أن تتوفر لنا الإمكانيات والظروف لانتزاع كامل حقوقنا في فلسطين.
– أرفض أوسلو وكل ما يترتب عليه.
– ليس هناك بديل عن الكفاح المسلح لحمل اسرائيل على الاعتراف بحقوقنا كاملة.”
نقل مجموعة مواقف عن أوسلو من خلال عددة شخصيات، يشير إلى حيادية السارد في تقديم الفكرة، فهو لا يريد للقارئ أن يكون (أسيرا) لفكرة بعينها، بل يريده أن يفكر بكل ما قيل عن أوسلو؛ ليقرر هو وليتخذ موقفا حسب قناعاته.
يقدم لنا السارد التغييرات الإيجابية التي عاشها الفلسطيني بعد دخول السلطة إلى المدن الفلسطينية من خلال هذا المشهد:
“… وأنت تسير في شوارع بيت لحم، ينتابك إحساس مريح..عادت المدينة إلى أصحابها.في ساحة المهد يتوزع عدد من أفراد الشرطة الفلسطينية؛ لتنظيم السير وحفظ النظام. في أعلى بناية مركزالشرطة يرفرف العلم الفلسطيني.
مديرية شرطة بيت لحم” هذا يشعرك أنه بدأ يتشكل لنا كيان.. نحن في طريق الاستقلال.. وعما قريب سيرفرف علمنا في كل مدينة وقرية، بعد تحرير كامل الأرض التي رواها مناضلونا بدمائهم..
الآن، تستطيع أن تمشي دون خوف، وبشعور من الطمأنينة. لن يعترضك جندي اسرائيلي، أو دورية تسألك عن هويتك.”
الجميل في هذه المشاهد أنها تشير إلى الحالةغير السوية التي عاشها الفلسطيني في ظل الاحتلال، فالحالة الطبيعيةالسوية تتمثل في السير دون أن يتعرض الناس للفحص الأمني أو الهوية، وأن يشاهدوا علمهم مرفوعا دون ملاحقة أمنية، أو التعرض للاعتقال، أو التعذيب، أو دفع غرامات مالية، من هنا جاءت هذه المشاهد؛ لتشير إلى الحاجة إلى جوع الفلسطيني لممارسة حياته الوطنية دون خوف أوملاحقة أو مسائلة، وقد قدمها السارد بطريقة سلسة محيادية، فجاءت جميلة كجمال اللحظات التي عاشتها فلسطين.
السرد الروائي
تحريك السرد يحسب للرواية ولكاتبها، فالحركة في السرد تعد تمردا على شكل الرواية، لكن هذا التحريك يخضع لمعايير وضوابط، وإلا أصبح عملا مُخلّا في بناء وفنية الرواية، يحرك الراوي السرد الروائي في أكثر من موضع، منها ما جاء في هذا المقطع:
“…كيف نبتت في ذهني فكرة أن أكتب رواية؟ شيء لم أختبره من قبل، وليس لي به دراية!..مجرد رغبة تملكتني، وكأنها محاولة للتنفيس عما يعتمل في داخلي، بعد الذي سمعته من نعيمة، بالأحرى بعد أن بدأت أحس أنني أفقد نعيمة، ومعها أفقد الحلم الذي جعلني أستمر في الحياة حتى اليوم.” اللافت في هذا القول أن السارد يؤكد على أن عناصر الفرح/التخفيف التي يلجأ إليها الأديب “الكتابة، المرأة، التمرد” فهو بعد أن فقد نعيمة لجأ إلى الكتابة كأداة يخفف بها ألمه، وبما أنه كسر وتيرة السرد، فهذا يعد (تمردا)، من ثم إضافة عنصر (تخفيف) جديد يتمثل في الثورة والتمرد على ما هو سائد ومتبع.
من هنا نقول أننا أمام رواية تتوازى فيها الأحداث الاجتماعية والسياسية، وقد استخدم السرد لغة عاديةبسيطةسلسة وسهلة، حتى أنها جعلت الشخصيات تتحدث بللهجة المحكية، وهو بهذا يؤكد على (شبعية) الشخصيات، وعلى أنها جزء منا، فكانت قريبة من المتلتقي، وهذا أسهم في تسهيل إيصال الأفكار التي يريدها للقارئ.
*صدرت رواية “وما زال الحلم، للأديب جمال بنورة عام 2011 عن دار النمير للطباعة والنشر في دمشق.