قبل مجىء اللّيل بقرون .. قصّة قصيرة

وليم فوسكرجيان | فلسطين

إسفلت أسود مروج عينيك ..
يا مدينة رحلت عنها المنازل ..
والطّرقات ..
والحارات ..
والأزقّة ..

ملاحظة:
لم يسمح الرّجال الّذين يرتدون ملابس الحرب دائما ..
وبأمر من شيخ المدينة غير الموقر ، لتلك المركبة التّي تقل تلك المرأة ، ورجلها ، وبعض النسوة ، بالمرور إلى المدينة القريبة .. لتجد من يساعدها في خروج الطفل من رحم أمه .. بعد أن تعسّر ذلك .. وزادت أوجاع تلك المرأة ، وملأ صراخها .. السهل والجبل .. بعد أن ثار رجال القرية ، وأكثر من مرّة .. لمحاولات شيخ المدينة غير الموقّر هذا ، ورجاله الأوباش المتكرّرة .. مضاجعة ما يحلو لهم .. من نساء القرية ..
//
الرّجال الّذين يرتدون ملابس الحرب دائما .. يغلقون الطّريق المؤدّي إلى المدينة، بالحجارة وأكوام القمامة.. بنادقهم تتحفّز في أيديهم، وعصيّهم تحدّق بلؤم .. بالجموع المحتشدة أمامهم.
//
الجموع الغفيرة تتراكض، والجنود متحفّزون أسفل إسفلت الطّريق المؤدّي إلى المدينة.. الجنود صامتون صامتون ، وأيديهم تشدّ على بنادق صدئة لعينة ..
الرّجال ..
والنّساء ..
واللأطفال ..
والعجائز ..
والّذين لا تعرف السّماء أسماء لهم بعد..
وجامعو القمامة ..
وبائعو الخبز وحليب الاطفال والعجائز ..
وموتى ..
وآخرون.. من الغاضبين.. والسّاخطين ..والواجمين.. تتدافع بحزن أسود، أقدامهم وأنفاسهم السّاخنة، في الطّرقات والأزقّة ..
//
تتقدّم الجموع امرأة عجوز.. تتدلّى عشرات الذكريات على صدرها بخطى مضطربة لتقف هناك، قرب تلك المركبة الملتصقة بذلك الجدار.
وبهدوء فظّ، تفتح بابها المتجهّم القسمات.. وتطول يداها المترهلتان وتطول حتّى تصل إلى الطفل الميّت، والملتصق هناك بذلك المقعد الصامت صمت القبور .. كحبّة قمح وادعة .. مستلقية هناك .. بين ذراعيّ أمّها الارض.
//
المرأة،، وبعض النسوة يولولون.. والدموع السّاخنة تنهمر من الشّفاه والأعين دون هوادة ..
ورجلها، وهو أحد الثّائرين والغاضبين لما يفعله شيخ المدينة غير الموقّر.. معبس، وغيوم مغرقة بالسّواد .. تملأ عينيه ، وكلّ شفتيه ..
//
لم تنبت عيناه بعد.. يداه الصغيرتان متشابكتان.. وشفتاه .. خطّان مضطربان، مرسومان على عجل .. في مكان ما من وجه ملائكيّ.. وقدماه الصغيرتان.. مزروعتان هناك.. أسفل خاصرتين نحيلتين.
//
تحضنه العجوز إلى صدرها، لتغمر جسده الغضّ.. دموع ساخنة تتساقط بنهم.. من عينيها المثقلتين بالأحزان.. ولا تمضي لحظات ،حتّى ترفعه بيديها عاليا ليراه .. الرّجال ..
والنّساء..
والأطفال..
وكلّ الآخرين ..
لتنطلق التنهدات الحارّة .. من الشفاه .. والأفواه .. والصّدور ..
المرأة تمزّق قطعة قماش انتزعتها من أحشاء ثوبها الأسود، وهي تطلق الآهات لتلفّ به.. جسد الطفل الميّت ..
الأب واجم صامت ، والعينان حجران أسودان .. والأم تولول وهي تهتزّ وترتجف ، ودموع ساخنة تنهمر من الشفاه والأعين .. دون هوادة ..
//
ويصيح أحدهم ..
_ وحّدوا الله ..
_ لا إله الاّ الله..
_ وحّدوه..
_ لا إله إلاّ هو..
ويقول آخر ..
_ يا جماعة.. إكرام الميّت دفنه.. صلّوا على النّبي ..
المرأة الثكلى تنتحب صارخة ..
_ آه يمّه آه.. أخدوك منّي يمّه أخدوك.
_ نعم نعم .. لنودعه وداعا يليق به ..
_ يا جماعة بدّي ابني .. من شان الله بدّي ابني..
_ الله أكبر .. الله أكبر ..
—–
الأيدي المتشابكة.. غابة من الأشجار الوحشيّة ، وصراخ الام الثكلى .. متقطّع .. متهدّج..
الأب واجم .. صامت، والعينان .. حجران أسودان..
والدّموع تملأ المآقي المضطربة.. النّساء والأطفال.. قامات منتصبة تمتدّ لتصل.. عنان السماء.
الرّجال تلتهب أعينهم بالغضب السّاخط، والأرض تكاد تختنق بالأقدام السّاخطة ..
والغاضبة ..
والمهرولة ..
والمضطرية ..
//
يهرول الجميع، وتلك المرأة تحتضن الطفل الميّت إلى صدرها ..
تتدافع الأقدام ..
والخطوات ..
والأنفاس ..
والجمل ..
والكلمات ..
والآهات ..
وتهمس العجوز بلوعة في أذنيّ الصبيّ الصامتة..
_ ولو أخدوا الرّوح منّي، وبكره نتلاقى.. وعّ دروب بلادي يمّه..
//
يخلع أحد الرّجال كوفيته العابسة، ويمدّ يده نحو العجوز الّتي تحمل ألف عام من الأحزان فوق كتفيها، ويقول بصوت هادىء ..
– لفّوا الصبي يا جماعه لفّوا الصبي ..
– الله أكبر.. الله أكبر..
– وحّدوه ..
– لا إله إلا هو..
//
يأتي المختار وبعض الوجهاء ، والأعيان ، وآخرين.. وهم يتهامسون، ثم يتكوّمون عند ذلك الجدار المضطرب القسمات ..
ويصيح المختار ..
_ وحّدوا الله ..
ويهتف الجميع بمرارة..
_ لا إله إلاّ الله ..
ويصيح والد الطفل وقد تحوّلت الدموع في عينيه .. الى حجارة لا لون لها..
_ الله اكبر يا جماعه ، نودّيه عَ المستشفى ، يمكن لسّه فيه الروح ..
والأم .. وقد أصبحت .. ظلا مغرقا بالسّواد ..
تتساقط الدّموع من أعين أعمدة الكهرباء.. والأشجار ..
وإسفلت الطريق المؤدي إلى المدينة.. أي أي مدينه .. .
//
تحاول بعض النسوة أخذ الطفل ، ورفعه فوق أصابع أيديهنّ الغاضبة..
تتدافع الأقدام ، والغبار يعلو الهامات.. والرّجال الّذين يرتدن ملابس الحرب دائما .. تنزف بنادقهم وأحذيتهم عرقا أسود.. وأيديهم وتلك العصيّ اللّعينة .. مصوّبة الى الصدور الثائرة..
//
تنشقّ السماء فجأة عن ضوء ساطع يأخذ الأبصار .. ويسمع صوت يهدر في الآذان والأفئدة ..
– أسمع صوتا صارخا في البريّة..
وتهتزّ الجبال والأرض ، وتنخلع قلوب الرّجال ..
والّنساء
والأطفال
وكلّ الآخرين ..
//
وما أن يستفيق الرّجال من ذهولهم، حتّى يضعوا الطّفل في التّابوت الّذي صنعوه على عجل ، من بعض الأسمال الباهتة، وقد انتزعت من ثياب بالية ، ملتصقة يصدور الرّجال وأردافهم ..
وبعض أغصان غضّة انتزعتها شجرة زيتون من جسدها .. كانت تتطلّع اليهم ، والدموع والحزن .. يملآن عينيها وشفتيها ..
يرفعون التّابوت فوق أكتافهم .. يرفعون التّابوت فوق أصابع أيديهم..
وما كادوا يسيرون بضعة خطوات حتّى يشهق الجميع ، وهم يرون التّابوت وهو يرتفع عاليا.. فوق الهامات والرؤوس..
_ الله أكبر .. الله أكبر.. إنّه يحلّق فوق رؤوس الرّجال..
إنّه يحلّق فوق رؤوس الرّجال..
_ وحّدوه..
_ لا اله الا هو ..
_ وحّدوه..
_ لا اله الا هو ..
//
ويتراكض الجمع ..
وأعمدة الكهرباء ..
والأشجار الّتي نعرفها ، والّتي لا نعرفها .. وأسفلت الطّريق المؤدّي إلى المدينة البعيدة .. خلف النعش.
وهم يرونه وهو يرتفع عاليا .. فوق الهامات والرؤوس..
العيون جاحظة ، والأنفاس ساخنة .. وغيوم لا لون لها ، تهرول من بعيد ، وقد هالها ما يحدث..
إسفلت الطرّيق المؤدّي إلى المدينة البعيدة، وقد تحوّل إلى إسفلت ناصع البياض .. يهتزّ تحت اقدام الرّاكضين..
والمهرولين ..
والغاضبين ..
والمبتهلين ..
وكلّ الآخرين ..
//
يهرول الجامع المهلهل الثّياب ، والقادم من المخيّم القابع خلف تلك التلّة البعيدة منذ أعوام وأعوام .. والعرق السّاخن يتصبّب من جبينه..
ورقبته ..
وصدره ..
وساعديه.. إلى تلك الجموع الغاضبة، وقد انتصبت قاماتها لترى .. ذلك القادم العجيب..
//
تمتدّ جذور الجامع في إسفلت الطريق المؤدي إلى المدينة ، وابتسامة شامخة تتهادى فوق شفتيه الخشنتين ..
يحدّق بالرّجال ، وهم ينظرون إليه .. مصدقين وغير مصدقين ..
يقول الجامع موجها حديثه للرّجال ، وتلك الابتسامة الشامخة ما تزال تتهادى فوق شفتيه الخشنتين..
_ سعيكم مشكور ..
ويردّ الرجال بعد طول تردّد ..
_ ذنبكم مغفور ..
//
ولا تمضي بضع لحظات، حتّى يتقدّم بعض الرّجال ليفتحوا أبوابه الأربعين، وليدخل كل الآخرين.. أفواجا أفواجا.. إلى ردهات الجامع الكبير، والنعش الرّهيب .. محمول فوق أكفّ الرّجال..
ولا تمضي لحظات أخرى، حتّى امتلأت ساحات المسجد بذكر الله، والصلاة على النبيّ، والهمسات.. وقد احمرّت العيون ، وامتلأت الصدور بالهواء السّاخن.. والذي تطلقه حناجر الرّجال ..
والنّساء ..
والأطفال ..
وكلّ الآخرين ..
//
همست الرّيح لتلك الشجرة القابعة هناك، عند تلك الربوة منذ الأزل ، وقد بدت أمارات الضيق الشّديد في وجهها العابس..
_ يقال إن بعض العجائز قد رتّلن آيات مبللة بدموع خاشعة من ذكر الله ، فعاد النعش بعد طول تردّد .. إلى أكتاف الرّجال ..
//
نحن ..
بائعو الجرائد ..
وماسحو الأحذية ..
وجامعو القمامة ..
والعتّالون ..
ومفسرو الأحلام ..
ومعلمو مدارس الوكالة والحكومة ..
ورجال المطافىء ..
وعمال المراحيض العامة والخاصّة ..
وصانعو توابيت الموتى..
وعمال مصانع الاحذية
والمشايخ ..
ورجال الطريقة ..
وناطرو التكايا ..
وحرّاس المساجد ..
وحفّارو القبور ..
والمخاتير ..
والوجهاء ..
والكتبة ..
والعشّارون ..
ورجال المحاكم ..
والحطّابون ..
والبنّاؤون ..
والسقّاؤون ..
والخبّازون ..
والطهاة ..
والخيّاطون ..
والممثلون ..
والمغنّون ..
والمنشدون ..
والأدباء ..
والشّعراء ..
والحجّاب ..
والخدّام ..
وموظفو معاصر الزيتون..
وأصحاب الحوانيت ..
وبائعو الجرائد ، وحليب الأطفال والعجائز..
وسائقو المركبات الصغبرة والكبيرة ..
في مدينتنا الحبيبة ، والّتي لا تنكر علينا ما نفعل ..
نعلن.. عن حزننا العميق والكبير لرحيل الطفل.. طفل تلك المرأة المغلوب على أمرها ..
طفل ذلك الرّجل المغلوب على أمره ..
وبهذه المناسبة الاليمة ، نعلن عن توقفنا عن العمل هذا اليوم..
إنّا لله ، وإنّا إليه راجعون ..
//
همست بحزن .. تلك العجوز في أذنيّ الجبل الذي كانت تتكىء على إحدى ذراعيه الخشنتين.. _ إيه .. إنّه الطفل الذي يعود بلادنا مرّة كل مائة عام وعام ، لكنه رحل هذه المرة .. وقبل الأوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى