عودان من بخور.. للأديبة ” وداد معروف ” النموذج المثال لفن القصة القصيرة
د. هشام المنياوي | ناقد وأكاديمي مصري
لو كان ثمة سؤال عن تعريف فن القصة القصيرة، لكان الجواب: عودان من بخور ..فهو نموذج جمع كل مناقب هذا اللون الأدبي في نص يمكن لي أن أكتب عنه دراسة نقدية بعدد مرات قراءتي له ، العنوان يمثل الإعلان الدعائي للمنتج الإبداعي (عودان من بخور) أحسن الدعاية للنص إذ فيه تشويق ما من جهة التثنية: لماذا عودان وليس عودا أو ثلاثة أو أربعة مثلا؟! ورغم أن السرد قد أجاب عن لغز التثنية ( عود في المطبخ والآخر في مدخل الشقة) إلا أن ترميزا يمكن أن يلمح وكأن خيطا رفيعا يشير إلى الزوجين بهذه التثنية وفي كونهما من بخور إيحاء بتبخر تلك العلاقة وانتهائها بفقد أحد طرفيها، ليس من الضروري أن يتعنى الأديب ذلك، يكفي أن يحتمل النص ذلك !!..قبل أن نغادر العنوان يجب أن نجيب عن العلة التي جعلت (من) تفصل بين طرفي العنوان (عودان – بخور) أغلب الظن أنها جلبت لتظهر تثنية العنوان أكثر وضوحا واكتمالا من (عودا بخور )لنلمح من وراء التثنية ظلالا دلالية ثرية ، القصة القصيرة لقطة، لذا ارتأت الكاتبة أن تكون لقطتها مكثفة بمشاعر الفقد الجياشة، لقطة ولوج البطل لشقته بعد فقد زوجته، لأنها أعظم لحظات الشعور بفداحة الغياب وقسوة الفقد، ليست القصة الفنية تلك التي تخبرك أنه (ماتت زوجته فدخل شقته يجمع أشياءه ويرحل) إنما القصة الفنية تلك التي تجعلك تكتشف موتها بنفسك وقد تأرجحت ظنونك بين غيابها وموتها، حتى إذا تتابع السرد سقطت ورقة من أوراق تساؤلاتك حيال النص الأدبي، وإذا كان لكل شعب لغة رسمية فإن اللغة التصويرية هي اللغة الرسمية لفن القصة، لأن المتلقي بفضل تلك اللغة التصويرية قد تخبط في ظلام السلم وهو يرافق السارد حيث يصوب فلاش هاتفه على كالون الباب، وتلك اللغة هي التي أجلسته على كنبة الأنتريه يعاين كوم الملابس القابع دون ترتيب، اللغة التصويرية هي التي تجعل المتلقي في قلب الحدث فيخال نفسه جزءا من مكونات السرد
وإذا كان لكل عمل قصصي بطل فإن بطل (عودان من بخور) هو المنولوج الداخلي الذي أدارته الكاتبة ببراعة، لم يكن غيره أجدر منه على نقل أحاسيس الفقد ومشاعر الغياب، كان من البهاء حد أن تحول من (مونولوج) إلى (ديالوج) متخيل بين السارد البطل وزوجته الراحلة فبدت وكأنها ترشده إلى أغراضه التي يبحث عنها) لا أجدها هنا.. نعم هنا خلاص يا إيمان وجدتها)..وإذا كان الانطباع الأول يدوم في علاقاتنا الاجتماعية وأمورنا الحياتية، فإن الانطباع الأخير هو الذي تدوم في عالم الإبداع الأدبي.. ولم يكن أروع من وصف مشهد إغلاق البطل لشقة زوجته الراحلة للمرة الأخيرة (وأدرت المفتاح لآخر مرة وأنا أغلق بابا طالما أدرته لسبعة عشر عاما)! هنا يخرج النص خروجه الأخير وقد ربح فينا الأثر الذي يدوم.