الازدواج اللغوي والمهني

بقلم: حواس محمود


أعود بانتمائي إلى القومية الكردية، ولذلك كان تعلمي بصغري لغتي الأم وهي الكردية، ولكنني منذ أن دخلت المدرسة الابتدائية تعلمت فيها العربية التي شكلت لي في اليوم الأول صدمة نفسية عندما طلب مني المعلم أن أعد من واحد إلى العشرة، وهذا ما كنت شارطت مسبقا أخي الأكبر الذي كان هو الآخر تلميذا في المدرسة نفسها، بأنه إذا طلب مني المعلم هذا الطلب لن أستمر في الدوام في المدرسة، ونفذت شرطي هذا بكل أمانة نفس، ولكن مع مرور الأيام والشهور والسنين تمكنت من اللغة العربية، وبخاصة في أثناء المرحلتين الإعدادية والثانوية قمت بمطالعة إبداعات كبار الكتاب: العقاد وطه حسين ومحمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وتوفيق الحكيم، وتابعت طريقي الأدبي بالمطالعة والمتابعة والكتابة في مرحلة الجامعة ونشرت المئات من المقالات وأصدرت عددا من الكتب، كل ذلك باللغة العربية لأنني وإن كنت استخدم اللغة الكردية في الأحاديث والجلسات الاجتماعية أو من خلال التعامل الأسري مع أطفالي وعائلتي، ولكن كانت العربية عندي- ولا تزال- لغة جميلة كما الكردية، ولكنني بسبب كثرة مطالعاتي بالعربية استطعت التعبير عن نفسي وعن مجتمعي وعن بلدي وعن قوميتي باللغة العربية بشكل أفضل من الكردية!
هذه الثنائية (كردية/عربية) تشكل لدى كل من هو متمكن بالعربية أو هو يمارس الكتابة الإبداعية أو الفكرية بالعربية ازدواجية لا ينفك يتخلص منها بسبب استمرار الحالة الازدواجية الأساسية وهي ثنائية اللغة ذات الجذر الثنائي القومي، إذ أن لكل قومية لغة خاصة بها، ومعروفة هي الأسباب التي تجعل من كرد سوريا مثلا أن يتعلموا العربية وحدها في المدارس لأنهم بصراحة شديدة لم ينالوا بعد حقوقهم التعليمية والثقافية؛ وغيرها وفي رحلة تواجدي بإقليم كردستان العراق صادفتني مشكلة أخرى من نفس النمط ولكن بشكل آخر، إذ أن اللهجة المستخدمة في سوريا هي اللهجة الشمالية (الكرمانجية) أما اللهجة المستخدمة في الإقليم بشكل عام – ما عدا دهوك – فهي اللهجة الجنوبية (الصورانية) والعكس بالعكس، ناهيك عن وجود مشكلة أخرى هي استخدام الإقليم للحروف العربية، بينما أكراد سورية وتركيا يستخدمون الحروف اللاتينية، مما يزيد الأمر تعقيدا على الذي يكتب بالحروف اللاتينية طبعا وباللهجة الكرمانجية!
هذا بحد ذاته شكّل وما يزال ازدواجية لغوية ذات طبيعة مركبة، فقوميا أنا اتحدث الكردية (الكرمانجية) وهذا يختلف مع العربية التي أتقنها حديثا وكتابة، أما هنا فنقع على ازدواجية أخرى وهي انك وان تحدثت الكرمانجية لكنك لا تستطيع أن تتقن الصورانية ذات الكتابة بالحروف العربية، رغم أنني أتقن الكتابة بالعربية، هذا ما يقع لي شخصيا ويقع للعديد من القادمين من الأكراد من تركيا وسوريا إلى إقليم كردستان، إضافة إلى إن استخدام اللغة العربية قليل والإصدارات الصحفية أيضا قليلة، وكذلك الاستخدام الإعلامي الفضائي باللغة العربية شبه معدوم، إذن فإنني أقع في “غربة لغوية مزدوجة” إن جاز التعبير ، فلا الكردية الكرمانجية تستخدم بالكتابة اللاتينية المعروفة، ولا العربية، وهنا يظلم الكاتب الكردي الذي يكتب بالعربية مرتين مرة من عدم الاهتمام الكبير به ككاتب كردي يكتب بالعربية من جانب بعض الأوساط الثقافية العربية، ومرة أخرى من جانب الأوساط الثقافية الكردية بسبب ادعائهم أنه لا يخدم الثقافة الكردية بل الثقافة العربية!
هذا الأمر يمكن للغويين الكرد في كل أماكن تواجدهم أن يجتمعوا ويضيفوا أسسا للهجة أو للغة كردية موحدة، وذلك يتطلب ورشات عمل متواصلة قد تستغرق أشهرا وسنينا، وهذه مهمة إقليم كردستان لتوفر الأجواء، وذلك بإتاحة المجال لهؤلاء اللغويين لكي يساهموا في إزالة الفوارق اللهجوية وتوحيد اللغة الكردية حديثا وكتابة، أما الازدواج الثاني فهو الازدواج المهني، حيث أنني احمل شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية، ولم تكن الهندسة رغبتي، دخلت هذا الفرع بموجب علاماتي في الشهادة الثانوية العامة، ومنذ أن كنت طالبا وحتى الآن لم أنجذب كثيرا لاختصاص الهندسة رغم أنها فرع راق يتميز بالبناء الحضاري ، ويعبر عن الأمم ورقيها العمراني، وكتبت مقالات في العمارة والعمران، ولكن كان انجذابي للثقافة والكتابة والإبداع أقوى من أن استسلم للمهنة الهندسية رغم أنني تمكنت من الهندسة ونفذت مشاريعا وأعمالا كبيرة وحصلت على درجة الاستشاري (مرتبة الرأي) وهي أعلى مرتبة هندسية، ولعل طبيعة الازدواجية إنها ذاتية وموضوعية، ذاتية بكون اهتماماتي ثقافية وصحافية، مهما كتبت وقرأت وتابعت على الانترنت إلا أنني لا اشعر إزاء ذلك بالتعب أو الملل على العكس من مهنة الهندسة التي أحيانا أشعر بالملل من دراسة مشروع كبير أو من تنفيذ ممل لمشروع، ونظرتي في الانجذاب إلى الثقافة والإبداع أكثر من الهندسة هي أن أي مهندس عادي يستطيع ما أنفذ من مشروع، ولكن هل يستطيع ذلك المهندس أن يكتب بمثل ما أكتب؟
هنا يبرز التميز والإبداع والخصوصية، أما الجذر الموضوعي من هذه الازدواجية فهو ان المهندسين ينظرون إلي ليس كمهندس وإنما ككاتب أي محسوب على فئة الكتاب والمبدعين، مما يحصل نوع من التباعد الناتج عن ازدواج المهنة أو ترحيل المهنة الأساسية (وهي الهندسة)، أما الكتاب والمبدعون فينظرون إلي كمهندس وليس ككاتب، فأقع إزاء هذين الانطباعين المختلفين بحرج ازدواجي كبير إزاء عدم استقرار النظرة إلي من خلال مهنة واحدة، رغم إنني وكما قلت اعشق الثقافة والأدب والفلسفة والإبداع، وضحيت من أجلها وسأضحي من راحتي ودموعي ودمي وحياتي لأجل هذه المهنة الإنسانية الرائعة التي تحاول تلطيف أجواء المقهورين بعبارات مناصرة مدافعة ومسح آلام المظلومين بمنازعة الاستبداديين والدكتاتوريين، ومداعبة عقول وقلوب الرومانسيين بكلمات وعبارات جميلة شفافة، تلامس نبض قلوبهم وبوصلة عقولهم وشفافية نفوسهم، إنها مهنة الخلق والإبداع، مهنة الألم والأوجاع، مهنة الرقص على حبال ومعاناة جموع الجماهير الغفيرة بألق وإشراق وجمال ورونق وبهاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى