العهد التركي في رواية الوجع والجرأة لإياد شماسنة
رائد محمد الحواري | فلسطين
جميل أن نجد من يتناول أدبيا واقع فلسطيني في أواخر العهد التركي، فالقالب الأدبي يبقى أكثر رسوخا في الذهن من المادة الجامدة التي تقدم على شكل تقرير صحفي/تاريخي، فروح الأدب في الرواية تبقى أسهل تناولا وأكثر سلاسة من المعلومات المجردة.
في هذه الرواية يتناول السارد مجموعة كبيرة من المواضيع، اجتماعية، اقتصادية، سياسية، أطماع الغرب في تركة الرجل المريض، بداية (استكشاف) فلسطين لتكون دولة لليهود، طبيعة النظام الإقطاعي ودوره في تسريب الأرضي لجهات مشبوهة، الصوفية والحركات الدينية، الوهابية، كل هذا قدم بصيغة روائية شيقة، حتى أن المتلقي يشعر وكأنه أمام قصص تراثية/شعبية خاصة تلك التي تحدثت عن مصطفى الخزاف والشيخ سلمان.
وإذا أخذنا ان السارد اعطا الشخصيات الحرية لتتحدث بلغة محكية وهذا جعلها قريبة من المتلقي، وسهل على القارئ تناول رواية كبيرة، ما يقارب أربعمائة صفحة (400) صفحة.
ورغم أن هناك أحداث قاسية ومؤلمة، خاصة التي تحدثت عن الإقطاع ودوره في تعذيب الناس وتجويعهم وقتلهم ومعاملتهم على أنهم عبيد، إلا أن وجود شخص مثل “مصطفى الخزاف وعلاقته مع النساء أسهم في تخفيف شيء من قسوة الأحداث، وأعطا الرواية بعدا تشويقيا، بحيث كان القارئ يتبع هذه الشخصية محاولا معرفة كل ما يتعلق بها.
طريقة الدخول إلى الماضي
تقديم رواية تاريخية يحتاج إلى شكل مناسب يستطيع السارد من خلاله الولوج إلى الماضي، من هنا جاء استخدم الفانتازيا لتكون الوسيلة التي توصل السارد إلى الزمن الذي يريد الحديث عنه، فعبد المعطي الموظف في محكمة القدس يجد كتابا مثيرا، يفتح له الزمن بكل ما فيه، وعندما يعود إلى البيت يبدأ في اكتشاف حقائق عنه نفسه، منها: “أخرج ورقة أخرى، كتب عليها “المرحوم عبد المعطي محمد عبد الله الساحوري توفى عام 1976، …توفى إثر نوبة قبلية حادة وهبوط شديد التنفس، تمتم بخوف “يعني أنا ميت من زمان، يا دين النبي محمد!، ميت وعايش!!.” ص25، بعدها يدخل “الشيخ ظاهر” ليفصل له طبيعية المهمة المطلوبة منه، وعلى أنه هو المختار من بين كل الناس ليقوم بالمهمة التي تتمثل في: “…ما لقيت حد يحفظ السر، ويخاف على مصلحة المدينة، بنقس نقية، زيك يا ولدي، لهيك اخترتك لتكتب حكاية الخرب في المعمورة” ص27، وهنا يأخذ “عبد المعطي” سرد ما جاء في الكتاب الذي فيه: “رايح تلاقي فيه كل شيء جمعت لك إياه من أرشيفات الدولة العلية” ص29.
بهذا الشكل تم الدخول إلى الماضي حيث تجري أحداث الرواية، وقم تم تحديد مكان الحدث بهذا الشكل: “المعمورة في الأسطورة، بلدة ريفية زراعية،، تتبع متصرفية القدس الشريف، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تجلس على عرشها القروي بين الجبال الشمالية الغربية للقدس، تتفادى سطوة شيوخ الكراسي ببعض الإتوات التي تدفعها إذعانا وخضوع” ص38، وبهذا يكون السارد قد حدد المكان، والزمن، واشارة إلى طبيعة الحكم والنهج المتبع في تحقيق (الأمن).
العهد التركي/العثماني
الأدب روح الأمة، وهو يعكس شيء من حقيقة الأحداث، يكشف لنا السارد شيئا عن طبيعة الظروف اتي مر بها الفلسطيني في العهد التركي من خلال هذا المشهد: “ـ ما هي الدولة هلكتنا ضرايب ورسوم، والباشوات هلكونا أتاوات، والبدو ذبحونا بالغزو، والمخاتير والمتصرفية والمتسلمين، وشيوخ الكراسي نحرونا إتاوات في الطالع والنازل، باقي عليهم يحلبونا، ويؤخذوا نسواننا، الله وكيلك” ص44، ما يحسب لهذا الكلام أنه جاء بلهجة محكية، وهذا ما يجعله سهل التناول، فكلام “أبو سالم” صادر من رجل يمثل الشعب/العامة، ولم يحمل كلامه أي تجميل للواقع، فكان دقيقا في وصفة للواقع.
أما إذا أخذنا مضمون كلامه، فنجد فيه ضعف الدولة التركية، وعدم قدرتها على إدارة البلاد، من خلال كثرة الموجود/المسيطرين/المتنفذين في البلاد، فهناك الباشوات، البدو، المخاتير، المتصرفية، المستلمين، الشيوخ” كل هؤلاء بحاجة إلى مال، وإلى ما يسكتهم من رشاوي مالية أو عينية.
يقدم السارد صورة عامة عن حياة الناس من خلال: “..يوم جاء المتسلم ليجمع الضريبةـ عجز بعض الأهالي ممن لم يثمر محصولهم عن السداد، كان المبلغ كبيرا، الدولة في حرب مع الكفار ويجب أن يقدم لناس أولادهم وأموالهم وأشجارهم المعمرة وقودا، الفراري خائن ويقتل، والمتهرب من الضريبة يسجن أو يخوزق، أو تباع أرضه وتصادر أملاكه” ص64، في ظل هذه الأوضاع عاش الفلسطيني، وكان عليه أن يأمن كل المتطلبات لمالية للدولة، وأن يمدها بالرجل، لخوض حروبها في البلقان، هذه هي حقيقة الدولة التركية، وما فعلته في المنطقة العربية.
لقد انعكس فساد الدولة على المجتمع، بحيث أصبح الناس الفقر والتملق والنافق أحد سمات المجتمع: “…يحمون حوله مثل جراد جائع على محصو نتن، …يطمعون بمكافأة ما، يجعلهم لا يتورعون عن الوشاية أي شيء بناء على الشبهة أو سوء الضمن، أقل العقاب أن يطرد بو شاكر الرجل المسكين من بستانه، أو حرمان زوجته من الخدمة في بيته وعند قدمي ابنته أو حريمه، لزوجة تجلي المواعين أو تنظف لزرايب، أو تخبز، أو تغسل من الفجر حتى المساء” ص 74، وكأن السارد من خلال هذا التمهيد يشير إلى أن بنية المجتمع الفلسطيني كانت أضعف من أن تواجه ما هو قادم، دولة الانتداب والحركة الصهيونية، وهذه أدانة غير مباشرة إلى دور الدولة التركية فيما آلت إليه أحوال فلسطيني تحديدا، وعلى أن عملية التمهيد لاحتلالها بدأت عمليا قبل بداية الهجرة الصهيونية.
يواجه الشيخ طاهر أبو شاكر بحقيقته وبما يفعله بالناس، مؤكدا على عقم النظام لإقطاعي، وعلى أن الإقطاع يعد مفسدة للناس وللدولة وللمجتمع: “بدي تخاف الله في المرابعين المساكين اللي بتتلاعب في لميزان معهم وبتاكل حصصهم، بدي تخاف الجبار وأنت بتوخذ منهم قبل من تخصم الضريبة، وبيطلعوا مقشرين بصل في آخر الموسم ما إلهم إلا اللي أكلوه” ص172، هذا نتيجة النظام الإقطاعي، ونتيجة ضعف الدولة التي وضعت واختزلت مهمتها في جباية لأموال، وأخذ الرجال إلى الحرب، مما جعل الأرض بلا رجال، والرجال بلا كرامة، والناس في جوع وفقر مدقع.
أما عن فكرة الغني يزداد غنى والفقر يزاد فقرا، توضح لنا “معزوزة” هذا الفكرة من خلال قولها: “…بس إحنا كنا الإقطاعيين، يعني أراضينا كانت أكثر من الحمايل الثانية، كنا ميخذين كل إشي والوظايف الميري إلنا لأن منا المتعلمين” ص175، هذا واقع البلاد والعباد في ظل دولة (الخلافة) التي يتغنى بها بعضهم، والتي يريدونها أن تعود، لتحمي البلاد والمقدسات، وتحقق العدالة، أليس حزب العدالة والتنمية التركي يمثل الله على الأرض!!.
بداية استكشاف فلسطين، التوغل الغربي الصهيوني
الرواية تقدم اشارات إلى الكيفية التي استطاع بها الغرب أن يخترق المجتمع الفلسطيني، وكيف استطاع أن يضع عملاءه ليرصدوا كل ما يحدث على الأرض: “بيتخذوا مع إخوانهم في القومبانيات باسماء جديدة، وهويات جديدة، ونسوانهم بيدخلن البيوت والقصور وبيصير إلهن محل أكثر من اهل البلد، عشرات الألوف دخلوا بهاي لطريقة، آه طبعا يا عمي ما هو لحم الأجانب طري، إسألوا الحارات الغربية في المدينة” ص1540155، إذا أخذنا دور الراهبة “باتريشيا” وأختها، والأب خريستو ورغدة/وصال/أديل رودنسون، يتأكد لنا أن كل هؤلاء كانوا جيش متقدم للغرب وللصهيونية في فلسطين، وهم من أسهموا في تقديم كافة المعلومات عن واقع فلسطين وأهلها للغرب.
الرواية من منشورات مكتبة كل شيء، حيفا، الطبعة الأولى 2021.