في فلسفة الجمال.. محمد العزايزة وأبو بليغ وصوت الموسيقى
د. خضر محجز | فلسطين
مثل تمثال صامت للمهابة والعبقرية، يجلس صامتاً، فيما أصابعه تداعب أوتار العود. حين تراه على هذه الصورة، وبعد أن تسمع عزفه، يحملك الخيال إلى محمد القصبجي. اسمه حسام ذياب، لكن كنيته (أبو بليغ) هي ما يرسخ في الذاكرة، ويغوص فيها مستذكراً الأسباب والنتائج. واضح أن بدايات شبابه عاصرت بليغ حمدي، وواضح أنه اختار هذه الكنية تيمناً بمن سماه العندليبُ (أمل مصر في الموسيقى).
يقول باختين: إن الكلمات منبرة بالنوايا، كل كلمة لها تاريخ.
فإن كان ذلك كذلك، فلا شك أن اسم العلم (وهو سيد الكلمات) يخفي وراءه العديد من النوايا، والكثير من التاريخ.
أبو بليغ!.. إنها كنية تحمل تاريخاً. ورغم ذلك فلا يمكن أن تراه مع توأمه الآخر محمد العزايزة، إلا وحمل لك تاريخُ الموسيقى، صورةَ أم كلثوم وراءها محمد القصبجي. لقد أتحفنا هذا التوأم الرائع بكثير من الجمال.
“إذا كان العفو هو شرف القوة، فإن الرقة هي شرف الضعف”. فإذا كان هذا القول صحيحاً، كمقدمة في علم الجمال، فيمكن ينقسم الجمال إلى قسمين: فخامة القوة، وحنان الرقة.
ففي النوع الأول يمكن إدراج أصوات كصباح، ووديع الصافي، وصباح فخري. ومن النوع الثاني تبرز بقوة أصوات حليم ونجاة وشادية
يتسابق النموذجان في الحياة وفي الموسيقى، ولكن صوتي حليم ونجاة أوشكا أن يحسما الفوز إلى جانب رقة الضعف، ذلك أنهما استغلا كل ما لديهما من ضعف، ليشعلا الكثير من الشجن في صوتيهما الرقيقين، وقلوبنا المتهيئة للنشيج. إنها غابة المشاعر البشرية التي يستحيل معرفة كل أسرارها.
وحين نتكلم عما بين أيدينا من أصوات جميلة في غزة، يبرز لنا ممثلاً لهذا الاتجاه الثاني، صوت محمد العزايزة. وحقاً إن صوت محمد العزايزة قد حاز جمال الرقة، أو صوت الحنين، أو أنين الضعيف الشجي، كما سبق أن صنفنا صوت عبد الحليم حافظ، حين حللنا أغنيته الأروع (فوق الشوك).
في الحفل الأخير بمناسبة عيد ميلاده كنا ثلة من الأصدقاء الرائعين: الفنان أبو بليغ ـ طبعاً ـ على العود، والفنان حسن الأستاذ، بصوته وعوده، والفنان زياد القصبوغلي على العود، الفنان صلاح حمد على الكمان، والفنان على ماهر الجمالي الرق ماهر، والأستاذ القدير إبراهيم داود على الأورغ، وابنه الدكتور إسماعيل على العود.
محمد العزايزة كعبد الحليم صوت شديد الرقة، شديد الدهاء ـ وكل رقيق داهية ـ يتمهل طويلاً قبل ان يلبي طلب الجمهور المتزايد. مزيد من الدلال ومزيد من الدلع، وربما مزيد من شرب الشاي إعداداً لصوته الباهر.
بعد كثير من التمهل تقدم محمد العزازية وغنى لنا ثلاث أغنيات: عطشان يا اسمراني لنجاة، وانا قلبي إليك ميال لفايزة، ويا ظالمني للست.
كان بودي أن أقذفه بحجر، حتى يصرخ ويتألم، لأمنع عنه عين الحسود.
حين غنى محمد العزايزة أغنية (عطشان يا اسمراني محبة) وتألق كالعادة، تألق معه العازفون بالفعل:
فأما أبو بليغ، فكان الصامت الصاخب، الي تشعر أن روحه في أصابعه. هو في هذا كان أشبه بعبقري الموسيقى العربية رياض السنباطي، باستثناء ان السنباطي كان يبدع اللحن، ثم يجلس يرقب أداء الفرقة من وراء المذياع، منتظراً أن تهرول الست إليه تلهث من صعود السلم، لتعانقه هاتفة: “يا عبقري”
كالسنباطي كان أبو بليغ عبقرياً، لكن العزايزة لم يكن يحتضنه أمامنا، كما تفعل الست بالسنباطي، ربما لأن ما بينهما من ألق العادة، يفتح المجال لصمت المشاعر، فيجعل الكلمات أقل قيمة.
من ناحية أخرى كان صلاح حمد، كعادته، يهتز متراقصاً مع الكمان، بصورة تذكرنا بالرائع عمر خورشيد وراء العندليب، حيث يملأ المكان ببهجة البصر إلى جانب بهجة السماع.
من جانب آخر كان الأستاذ زياد القصبوغلي يداعب أوتار العود، بثقة الأستاذ الذي يمنح عوده كل الاهتمام، تاركاً للجمهور أن يتأمل الروعة.
أما الأستاذ إبراهيم داود، فقد انحنى على الأورغ، وراء نظارته، وقد منح الموسيقى كل اهتمامه.
وقريباً منه كان ابنه الدكتور المتخصص في علم الموسيقى، إسماعيل إبراهيم داود، على العود، يعلم العود كيفية النطق.
وهناك كان الرق وأستاذ الرق ماهر الجمالي، يوشك أن يلفتنا عما نرى من غيره او نسمع. وللرق في الموسيقى العربية شأن، وأي شأن، خصوصا على يد ماهر.
حسن الأستاذ كان يعزف على العود حيناً، ثم يقوم ليراقب اكتمال الجمال في نواحي الحفل، فقد كان أبا لكل هذا وسيداً.
عزف الجميع، وهتفنا قبل العزايزة، وقد تملكنا الطرب. ثم تقدم العزايزة ليبهرنا
عطشان يا اسمراني محبة ـ ـ ـ ـ عطشان يا اسمراني
إملالي القناني محبة ـ ـ ـ ـ أملا لي القناني
يا نيل يا اسمراني
يا مايل وجاي يَمّتنا ـ ـ ـ ـ ومعاه الهوا بيميل
اسقيني على محبتنا ـ ـ ـ ـ قدام العذول يا جميل
اسقني على طول ـ ـ ـ ـ ولا تسأل في عذول
الكلمات مرسي جميل عزيز
اللحن محمود الشريف
الغناء نجاة الصغيرة
نحن الآن نستمع إلى تخت شرقي مصغر مكون من الفنانين حسن الأستاذ وزياد القصبوغلي وصلاح حمد وأبو بليغ وإبراهيم داود وإسماعيل داود وماهر الجمالي.. وكل له مذاق ودور
محمد العزايزة في هذا الصنف من الألحان أستاذ، يعرف كيف يختار، ويعرف كيف يطبع بصمته الخاصة على اللحن الكلاسيكي المميز. يذكرني في هذا ببصمة العندليب التي يصمم على طبعها على أي أغنية يغنيها لغيره. كما رأينا العندليب يفعل حين غنى في سهرة صغيرة أغنية الست (ودارت الأيام)
لقد كان لصوت العزايزة هنا عظمة التميز في البصمة، ما كان للعندليب في تلك السهرة السرية ـ يبدو لي أنها كانت سهرة سرية، فالعندليب يخشى صولة الست ـ حيث انطلق صوت العزايزة وانطلق معه صوت الجمهور الصغير وقد اهتز به الطرب، حتى تحول الحفل الصغير إلى ما يشبه تظاهرة فنية صغيرة، قريبة من ساحل البحر، في شاليه معزول عن تسمع العذال.
كنت أرقب العزايزة وقد هزه الطرب، فهزنا معه، وهو يعيد ويزيد ويغير في تلاوين الصوت، فأهتز معه، وأتذكر لحظات مماثلة سقناها من عمرنا، قبل أن تسرقنا السياسة.
كان رائعاً. ولكن بعضنا كان يبكي، ربما من شدة الطرب، وربما من شدة الشوق لما افتقد، وربما من شدة الحنين إلى ما هو آتٍ، هناك في العلا إلى جانب الأرواح السماوية.
بعد (عطشان يا اسمراني) غنى العزايزة لفايزة أغنية (أنا قلبي إليك ميال): من كلمات مرسي جميل عزيز، ولحن محمد الموجي.
يعرف الموسيقيون جميعاً عمق صوت فايزة، ويشعرون بإعجاز مميز في صوتها، حين تنطق حرف الفاء. ولو سمعتم أي أغنية لها، فسترون كيف تخرج الفاء من فمها بطريقة لا يستطيعها غيرها، ربما كان إعجازها هنا يشبه إعجاز حليم حين يرتجف بصوته في الكلمات المميزة.
محمد العزايزة ماكر داهية يعرف هذا بحس الفني العميق، ويحاوله في آن.
مع الموسيقى، وقبل أن يصدح بالغناء، يهتز الجمهور الصغير المميز، مردداً كما كورس يسبق الأغنية. وحين يقول العزايزة: (انت وبس اللي حبيبي) يهتز الجمهور بطرب ويردد معه.
العازفون كذلك يهتزون ويتمايلون خصوصا صلاح أبو حمد، وماهر الجمالي: اثنان مميزان يهتاجان مع الجمهور، فيما يصر الأساتذة الكبار الآخرون على التظاهر بالوقار.
عندما يصل العزايزة إلى قوله: (ومليت الدنيا عليه ـ ـ ـ ود وحب وحنية)، يمهر صوته برقة مختلفة، قبل أن يقول: (خليتني أحب الدنيا ـ ـ ـ ـ طول ايامي ولياليه)..
الغناء يتصاعد، والجمهور يردد، والموسيقيون تبدو عليهم السعادة، سعادة إنكار الذات التي يتميز بها كبار الملحنين.
كانت سهرة جميلة أحيت القلوب
كل طرب وأنتم بخير يا أحبائي