تهويمات في الساعة الهامدة من الليل.. وَاللهِ يادِمشقُ
فايز حميدي | شاعر وكاتب فلسطيني مغترب
أرسلَ ناظريهِ عبرَ النافذة لِرؤية حالة الطقسِ ، البردُ يَنحسرُ مع شروق الشمسِ ، والنهارُ يَتألقُ مُضيئاً .
الجَو في الربيعِ محيرٌ ، كما هو في باقيِ أشهرِ السَنة ، فَمِنَ المُمكن أن تعيشَ الفصولَ الأربعة في يومٍ واحد…
استجمعَ أفكارهُ ، فَخَامرتهُ سعادةٌ مَشوبةٌ بالقلقِ …لَبِسَ مَا وَجدهُ مُناسباً وَخرجَ .
دخلَ مقهىً تُركياً ، طَلبَ فنجان من القهوةِ ، وأنشأ يَرقبُ حركةَ المارةِ عبرَ الواجهةِ الزجاجيةِ ، وَشعورُ بالوحدةِ يَلفهُ ، لا يَدري كيفَ يَقضي يومهِ ، ولا يَود أن يفعلَ شيئاً …
أدركَ فجأةً ، أنهُ أصبحَ ضحيَّة عُزلةٍ ، هي الأقربُ إلى الإقامةِ الجبريةِ …
تأملَ في ذاتهِ جسداً جَاوزَ الخمسينَ من العمرِ ، روحاً بَدأت تَشيخُ ، وإرادة دبَ فيها الوهنِ ، وَبدأت ترضخُ للواقعِ الموجودِ … لا شيءَ في هذا العالم يَسيرُ باستقامةٍ ، العالمُ قاس ٍ .
مُذ حلَّ في صقيعِ هذه البلاد وَظلامُها قبلَ أكثرَ من عامٍ ، نَسيَ كلماتِ الشروقِ والغُروبِ ، وَبزوغ النجوم وغيَابها ، وَكلُّ مُفرداتِ الفضاءَ والنَور الكَوني ، حيثُ الشّمسُ والقمرُ والسماءُ كلُّها هُنا مُحتجبةٌ أغلبَ الأوقاتِ وَالفصول ..
أخذَ يَتساءلُ ، ما الذي أتى بهِ إلى هذه البلاد وبلادُ اللِه الواسعة ، وَشمسُها السَاطعةُ ، وَلَكِنهُ كفَّ عن السؤالِ ، عندما إجتاحت ذَاكِرتهُ وطنٌ ظَل يَشبهُ الضَباب ، والأَدخنة الدَاكنة …
عندما سُمحَ للمدنيين بالخروجِ من المخيمِ بعد إغلاقهِ ثلاثةَ أيامٍ مُتواليةٍ ، خَريفَ عام ٢٠١٢م.. .
على الحاجزِ كانَ الدورُ طويلاً .
سَمِعَ صوتاً مألوفاً يَتحاورُ مع أحدِ أفرادِ الحَاجز …
– قالتْ السيدةُ : أنا أعملُ موظفةٌ في الدولةِ ، وَمن حَقي إخراج أغرَاضي الشَّخصية …
– ردَّ عَليها بِعصَبيةٍ : شو بتشتغلي إنتِ ؟
– أعملُ معلمةٍ ..
– هل لديكِ أيّ إثباتٍ يَدلُ على صحةِ كَلامكِ ؟
– أجابتْ بصوتٍ خافتٍ :
لا..نَعم تَذكرتُ ، معي دَفتر تَحضير المُدرس ، وأخرجتهُ من محفظتها اليَدوية .
وَجدَ الفُرصةَ مُلائمةً للتدخل ، تَقدمَ منهما وَقال:
هذهِ السيدة مُدرسةٌ ، وذَكرَ إسمها ، واسم مَدرستها ..
أجابهُ بحنقٍ وتَهكمٍ ، وأنتَ ماذا تعملُ ما شَاءَ الله عَليك ؟
– مُدرس .
ردَّ بلئمٍ وَغضب مُبالغٌ فيه : انتو كُنتو تقشّروا بَطاطا ، مو دَرسوا طُلاب .
في تلك اللحظات تَمنى أن يَفتح أوردتهُ ، وَيُصفي دَمه العربيِ المَلعون في جسدهِ …مَشى مُتثاقلاً ، وَروحه مَلأى بالكآبةِ …
وتمضي الأيامُ بين الصمت المُطبق لفتراتٍ طويلةٍ ثُم البوح بين الفينةِ والأُخرى ..
في قلبِ مدينة نور شُوبنغ السّويدية ، الغنيةِ بالألوانِ ، وَالنابضةُ بالحياةِ والأنوار ، والحَركة الهائلة ، والمُتعةُ ، وَسحرُ الحضارةِ الأوروبية الخارقة …
ولكنّه في لحظةٍ تَذكرها ، أَومَضت دِمشّق ، ومُخيم اليَرموك (مخيم الشهداء) ، البزورية ، وَسوقُ الحميدية في مخيلتهِ ، فَكإنما أومضَ الحقُ ، كأنما أومضت الأحلامُ الجَميلة ، فتذوبُ مَدينة نور شوبنغ ، وتذوبُ حَضارة أوربةَ، وَتتجرُّد ، وَيقفُ وَكأنه في صحراءِ الرُبع الخالي ، أو في قلبِ المُحيط الأطلسي ، وقد انتقلتْ بكل ذرةِ حَياة فيه إلى دمشق …
مَوجوعونَ بك يا دِمشقُ …في دَاخلك كانت تتذابحُ الأزمنةُ الفائتة ، كان وَجهكِ مُرهقاً بالخيباتِ ، والكوابيسِ والظنون … الحزنُ كانَ يُقرأ تحتَ الإبتساماتِ غير المُقنعة …أغصانُ الجدّري تتسلقُ خَدكِ ، وأشهدُ أنّي لَمحتُ الشّمسَ تَحتضرُ في عينيكِ …
كُنتِ بعيدةً ، وَكُنتِ قَرِيبةً إلى قَلبي ، أنصتُ لكلِّ الإنِكسارات التي كانت تَهزُكِ ، وأقولُ :
كَيفَ حَالُكِ يا دمشقُ ، كَيفَ أصبحت ، وَكيف تُداوينَ الجُرحَ الذي خَلفتهُ هَذة الحَربُ المدمرة …
إنني لا أعرفُ مَاذا فينا نَحنُ أبناءَ القهر ، أبناءَ فلسطين ، يَجذبنا بِشدة وَقوة واستماتة إلى هذه البُقعة من سطحِ الأرضِ ، رَغمَ ظُلم ذَوي القُربى …
مَتى نَقتحِمُ بصحبتكِ أرض الهزائم وَنذلها …ياه ، كم اشتقتُ إليكِ !
واللهِ يا دِمشقُ فيكِ كُلَّ ما يُغري بالبعاد ، ولكن فيكِ ما هو أروع من القُربِ والبعد والمُتعة والسعادة …..فيك الحياة ..
محبتي
(القدس الموحدة عاصمة فلسطين الأبدية )