الشعر السياسي للمتنبي في مصر.. قراءة ثقافية
د. هالة فرحان | أكاديمية مصرية – جامعة حلوان
إن الثقافة السياسية ” تشير إلى تأثير السياسة على الثقافة وتأثير الثقافة على السياسة وعلى نحو أكثر تحديد ، تشتمل الثقافة السياسية على القيم ، والمعتقدات والأفكار ، والممارسات التي وجدت في الجماعات التي تلعب دورًا في التنظيم السياسي للمجتمعات ” فلقد كان المتنبي بارعًا في الشعر السياسي عند سيف الدولة وقد كادت الفرصة تسنح له مرة أخري إلي وصف الحرب والجهاد عند كافور، ولكن اختلفت الظنون مما اضطر المتنبي إلي الهدوء مرة أخري “ففي سنة سبع وأربعين وثلاثمائة كانت وحشة بين كافور وبين أنوجور بن الإخشيد، سعى فيها المفسدون بين الملك ووليه، وجدُّوا في السعي حتى أفسدوا بينهما ، وحتى كادت الحرب تشب، ثم اصطنع كافور الحلم والأناة كما اصطنع معهما العزم والحزم وأحس الملك ضعفه وحاجته إلى وليه فعاد الأمر بينهما إلي صفاء”
وقد ذكر المتنبي هذه القصة مرتين الأولي حين هنأ كافور بعيد الفطر قال:
يُريدُ بِكَ الحُسّادُ ما اللَهُ دافِعٌ وَدونَ الَّذي يَبغونَ ما لَو تَخَلَّصوا إِذا طَلَبوا جَدواكَ أَعطوا وَحُكِّموا وَلَو جازَ أَن يَحوُوا عُلاكَ وَهَبتَها وَأَظلَمُ أَهلِ الظُلمِ مَن باتَ حاسِداً وَأَنتَ الَّذي رَبَّيتَ ذا المُلكِ مُرضِعاً وَكُنتَ لَهُ لَيثَ العَرينِ لِشِبلِهِ لَقيتَ القَنا عَنهُ بِنَفسٍ كَريمَةٍ |
وَسُمرُ العَوالي وَالحَديدُ المُذَرَّبُ
|
المتنبي في هذه القصيدة ينضم إلى كافور : ويكاد يجمل ولا يفصل ويعلن أن الملك مدين لكافور بما هو فيه، وأنه قام علي هذه الدولة فرد عنها العدو الخارجي وأحسن سياسة التدبير فيها، وهو يقول إن الحساد يريدون بك السوء والله يدافع عنك كذلك تردعهم رماحك وسيوفك، ويريد الحساد زوال ملك وفساد حكمك وأنت تقابل كل هذا بمكر وذكاء منك وأنت الذي ربيت هذا الملك بعد أن مات أبوه وكنت بالنسبة له كالأسد الذي يرعى شبله الصغير وسيفك كالمخلب الذي يدافع به الأسد عن شبله فأنت تدافع عنه ضد أعداءه.
ولمَّ تم الصلح بين الملك ووليه واستقر الأمر بينهم قال المتنبي يهنئه في داليته المشهورة ويقول:
حَسَمَ الصُلحُ ما اِشتَهَتهُ الأَعادي وَأَرادَتهُ أَنفُسٌ حالَ تَدبي صارَ ما أَوضَعَ المُخِبّونَ فيهِ وَكَلامُ الوُشاةِ لَيسَ عَلى الأَح إِنَّما تُنجِحُ المَقالَةُ في المَر وَلَعَمري لَقَد هُزِزتَ بِما قي وَأَشارَت بِما أَبَيتَ رِجالٌ قَد يُصيبُ الفَتى المُشيرُ وَلَم يَج |
وَأَذاعَتهُ أَلسُنُ الحُسّادِ
|
فرصة أخرى للمتنبي تدفعه لوصف الحرب :
في عام ثمان وأربعون وثلاثمائة جاءت الفرصة ، ولكن الظروف حولتها مرة أخرى علي وجهها فقد ثار شبيب العقيلي في الشام واجتمع حوله عدد كبير من الأعراب فعرض الدولة للخطر وأغار علي دمشق وخر ميتا لم يلمسه سيف فقيل إن كافور قد دس له السم ووصل خبره إلى مصر يوم الجمعة خمس خلون من جمادى الآخر وطلب كافور من المتنبي أن يذكره قال:
عَدُوُّكَ مَذمومٌ بِكُلِّ لِسانِ وَلِلَّهِ سِرٌّ في عُلاكَ وَإِنَّما أَتَلتَمِسُ الأَعداءُ بَعدَ الَّذي رَأَت رَأَت كُلَّ مَن يَنوي لَكَ الغَدرَ يُبتَلى بِرَغمِ شَبيبٍ فارَقَ السَيفُ كَفَّهُ كَأَنَّ رِقابَ الناسِ قالَت لِسَيفِهِ فَإِن يَكُ إِنساناً مَضى لِسَبيلِهِ |
وَلَو كانَ مِن أَعدائِكَ القَمَرانِ كَلامُ العِدا ضَربٌ مِنَ الهَذَيانِ قِيامَ دَليلٍ أَو وُضوحَ بَيانِ بِغَدرِ حَياةٍ أَو بِغَدرِ زَمانِ وَكانا عَلى العِلّاتِ يَصطَحِبانِ رَفيقُكَ قَيسِيٌّ وَأَنتَ يَمانِ فَإِنَّ المَنايا غايَةُ الحَيَوانِ |
يقول أنه من عداك فهذا دل علي جهالته وسقوط منزلته بين الناس ، ولو كان من أعداك الشمس والقمر اللذان هما أكثر نفعا للإنسان وأن لله سرًا فيما أعطاك من علو منزلتك بين الناس ، وأن ما يخوض فيه أعدائك من الكلام عليك فهو نوع من الهذيان وقيل أن هذا البيت أقرب للهجاء منه إلي المدح “فكأن المتنبي قد جعل ارتفاع قدر كافور أثرًا من آثار المصادفة ، ونوعًا مما تنكشف عنه الظروف ، ولكني قدَّمت لك أني أرتاب في ارتياب الناس هذا ، إن صح أن نصطنع أسلوب المتنبي في الحديث فالبيت مدح خالص لا غبار عليه “وقد ظهر للأعداء دليل علي ذلك بموت شبيب حين غدر بك فهل يوجد دليلًا أوضح من هذا وأن كل من يريد بك الغدر يُغدر به أما من جهة الحياة بالموت أو من جهة الزمان بالذل والمهانة وأن السيف قد فارق يد شبيب رغم عنه علي الرغم من عدم مفارقته لسيفه ، وإن كان شبيب إنسان مات فالموت غاية كل حي .
وكانت الأحوال السياسية في مصر لا ترضي المتنبي حيث إن المصريين قد استكانوا لحكم عبد من العبيد كان مملوك يباع ويشترى بدراهم معدودة.